مـرسي عطـا الله/الأهرام

لا أعرف ما إذا كان إحساسي صادقا أم أنه مجرد هواجس مؤقتة وطارئة نشأت بفعل زلزال التصريحات التي أدلي بها نائب الرئيس السوري السابق عبدالحليم خدام وأحدثت فرقعة سياسية بالغة في المنطقة بأسرها قبل أن تسقط آخر الأوراق في سنة‏2005..‏ وأغلب الظن ـ حسب اعتقادي ـ أن الرجل الذي لم يمض علي تركه لموقعه في دمشق سوي بضعة أشهر والذي كان شريكا في منطقة صناعة القرار السوري لأكثر من‏40‏ عاما متصلة

قد ارتضي لنفسه أن يكون حصان طروادة للهجوم المرتقب ضد سوريا والذي يتزامن مع حزمة من الرياح والأعاصير التي تنبيء بأن المنطقة كلها ـ وليس سوريا وحدها ـ مقبلة علي شتاء سياسي عاصف تتغذي أمطاره وتتكثف سحبه بغرور وصلافة القوة التي أصبحت عنوانا بارزا لواقع دولي جديد اختار منطقة الشرق الأوسط ـ تحديدا ـ لكي تكون ميدان الرماية والتدريب لوضع مخططات الهيمنة وفرض النفوذ وفرض الوصاية موضع التنفيذ‏.‏

وربما يكون ضروريا أن أشير ـ في البداية ـ إلي أن مبعث قلقي من تصريحات السيد خادم لايتعلق فقط بمضمون ما قاله الرجل من منفاه الاختياري في أحد قصور باريس‏,‏ وإنما في التوقيت الحرج الذي جاءت فيه هذه التصريحات متزامنة مع نقل ملف التحقيق في جريمة اغتيال الحريري التي يراد الصاقها بسوريا إلي محقق دولي جديد ربما يتمكن من إنجاز ما لم يستطع المحقق السابق ديتليف ميليس أن يحققه خصوصا بعد انكشاف قصة الشاهد المقنع حسام حسام وأدي لنسف جانب كبير من مصداقية تقرير ميليس‏.‏

إن الرجل الذي كان ملء السمع والبصر في المطبخ الرئيسي للسياسة السورية لأكثر من أربعة عقود متصلة علي المستويين الحزبي والتنفيذي أثار لغطا كثيرا بما قاله بعد خمسة أشهر فقط من خروجه من السلطة وفتح الباب لتكهنات واجتهادات وشائعات لم يكن لها أن تتردد علانية علي الألسنة والشفاه وفوق صفحات الصحف ومنابر الإعلام لولا الانقلاب المفاجيء والانشقاق الغريب الذي عكسته تصريحات خدام علي المسألة السورية برمتها‏!.‏

أريد أن أقول بوضوح ـ ودون أدني حساسية أو حرج ـ إن ما أقدم عليه عبدالحليم خدام بمضمونه اللفظي وتوقيته الزمني ومكانه الجغرافي قد زاد من حجة أصحاب نظرية المؤامرة في العالم العربي والذين بدأوا في الدق علي نغمة العملاء النائمين في أحضان السلطة في بعض العواصم العربية من أجل إثارة الفتن وإحداث الارتباكات المطلوبة وهم في مقاعد السلطة ثم إثارة الغبار وإطلاق العواصف فور خروجهم من السلطة‏.‏

والحقيقة أن المشكلة أبعد وأشمل مما يتردد في إطار نظرية المؤامرة التي لا أملك أن أؤيدها أو أن أنفيها ولكنها مشكلة تتعلق ببعض من أوصلتهم الظروف والمقادير إلي الصفوف الأولي دون أن يكونوا مؤهلين لها وقادرين علي تحمل مسئولياتها في السراء والضراء علي حد سواء‏.‏

ثم إن المشكلة ـ وفق أي مقياس سياسي دقيق ـ ليست مشكلة عبدالحليم خدام وحده ولكنها مشكلة كثيرين ـ في العالم العربي ـ وصلوا إلي مقدمة الصفوف بعلم محدود وبقدرات محدودة‏,‏ فضلا عن جهل فاضح بدروس التاريخ وقصور معيب عن الفهم الاستراتيجي الذي يختلف كثيرا عن ذلك الفهم التكتيكي الذي يجيده بعض الوصوليين اعتمادا علي قليل من الدهاء ومزيد من الخبث‏!.‏

وتلك بالفعل أحد أهم عناصر أزمة الحكم في بعض الدول العربية التي ربما تكون قد نجحت في مجاراة بعض مظاهر الحداثة والقدرة علي التعامل مع تقنيات العصر وأدواته ولكنها مازالت بعيدة وبعيدة جدا عن قدرة الولوج إلي الحداثة المطلوبة في الفكر وفي التصور الذي يؤدي إلي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب‏!.‏

‏***‏

ولست أريد أن استطرد كثيرا في مناقشة العموميات ـ رغم أهميتها ـ ولكنني ـ في ذات الوقت ـ لا أستطيع أن أتجاهل أن ماحدث يمس أفكارا وأدوارا وأحداثا ترتبط بتاريخ سوريا الحديث علي مدي يزيد علي‏40‏ عاما وان أهميتها وخطورتها ترجع إلي أن سوريا ـ بل المنطقة كلها ـ تمر حاليا بظروف دقيقة لاتحتمل مثل هذه الانشقاقات والانقلابات‏..‏ ولو حتي بالروايات والتصريحات عبر الفضائيات‏!.‏

بل إنني من هول الصدمة لم أتعامل مع هذه التصريحات الصادمة بفكر سياسي يدرك حقيقة المتغيرات التي قد تنتقل بشخص من فكر إلي آخر‏,‏ وإنما تعاملت معها باعتبار أنها تعكس واقعا مخيفا بالمنظور الأخلاقي علي ضوء سجل الرجل في السياسة السورية لأكثر من أربعة عقود‏,‏ وان محاولة التنصل من المسئولية بعد أشهر قليلة من ترك السلطة ليس مجرد تآكل سياسي في نطاق دمشق وإنما هو تآكل أخلاقي ربما يكون جزءا من مخطط كبير يستهدف أن يجعل كل شيء في سوريا قابلا للتصدع وقابلا للانهيار‏.‏

إن من حق عبدالحليم خدام أن ينتقد نظام الحكم الذي انتمي اليه طوال مشواره السياسي الطويل‏..‏ ولو أنه فعل ذلك من داخل النظام قبل أن يترك السلطة أو فعل ذلك من داخل سوريا قبل أن يرتب للهروب الكبير إلي المنفي الاختياري لكان قد اكتسب مصداقية أعمق ولحظيت تصريحاته باحترام أكبر‏..‏ لكن ملابسات القصة كلها بدءا من الخروج إلي السلطة ومرورا بالخروج إلي المنفي‏..‏ ووصولا إلي الخروج علي وطنه في لحظة صعبة تصب بعدا جديدا عن دوائر المصداقية والاحترام والشجاعة في ابداء الرأي‏!.‏

لعلي أكون أكثر وضوحا وأتساءل ـ مثلما يتساءل الكثيرون في العالم العربي ـ عن مدي مصداقية ماتحدث عنه عبدالحليم خدام عن غياب الديمقراطية وانتشار الفساد واتساع مساحة الفقر‏..‏ وهو الرجل الذي كان صوت سوريا القوي المعبر عنها في الخارج والمبرر لكل سياسات الداخل؟

هل بمقدور أحد أن يصدق انتقادات خدام لما سماه الحلقة الضيقة الممسكة بدفة الحكم والمحيطة بالرئيس‏,‏ وهو الذي كان طوال هذه العقود المتصلة أبرز أعضاء الحلقة الضيقة وألصق الناس وأكثر اقترابا بالرئيس الراحل حافظ الأسد وبالرئيس الحالي بشار الأسد؟‏.‏

وفي اعتقادي أن الذين تعاملوا مع تصريحات عبدالحليم خدام علي أنها شهادة من قلب النظام السوري ينطبق عليها القول المأثور‏:‏ وشهد شاهد من أهلها قد فاتهم صحة الاشتراطات التي يجب أن تتوافر في هذا الشاهد وأهمها أن يقول شهادته وهو وسط أهله‏...‏ ومن هنا فإن التوصيف الصحيح لما فعله عبدالحليم خدام هو أن المحامي الدائم المعمر للعائلة السورية قد تحول بين يوم وليلة إلي مدع عام يوجه الاتهامات للعائلة ثم إلي قاض يصدر ضدها أحكاما نهائية وباترة‏!.‏

***‏

وإذن ماذا؟

في اعتقادي أننا بحاجة إلي قراءة عربية لهذا الموقف الصارم وليس مجرد قراءة سورية يغلب عليها طابع الحسرة والندم والأسي والألم‏...‏ أو مجرد قراءة لبنانية بمفردات المعارضة يغلب عليها طابع الفرحة والتشفي واستعجال ساعة الانتقام‏!.‏

نحن بحاجة إلي قراءة عربية تعي الدرس ولاتسمح بامكانية تكراره في عواصم عربية أخري خصوصا أن هذه الظاهرة لم يعد لها وجود سوي في عالمنا العربي الذي مازال بعض من يتعاطون السياسة فيه غير قادرين علي التفرقة بين حق الخلاف السياسي وبين خطيئة اللدد في الخصومة إلي حد اللجوء لسياسة هدم المعبد علي رؤوس الجميع‏.‏

ومهما قيل عن سوء الإدارة أو تراكم الأخطاء في أي قطر عربي فإن السعي لإصلاح الوضع والضغط باتجاه تعديل المسار ينبغي أن يتم من داخل الوطن وليس من خارج الحدود لأن مثل هذه الشهادات المتأخرة لايمكن تبرئتها من كونها شهادات مجروحة ومحاطة بشبهات مكانية وزمانية لافتة‏!.‏

أريد أن أقول إن الزلزال الذي فجرته تصريحات عبدالحليم خدام يؤكد أن هناك غيابا فاضحا للثقافة السياسية الصحيحة التي يجب أن يتسلح بها من يتولون مثل تلك المناصب الرفيعة والحساسة في أوطانهم والتي تتيح لهم حق الاطلاع وسعة المعرفة بأخص وأدق الأسرار‏!.‏

وهنا يجب القول بأنه إذا لم تكن هناك خطوط حمراء يعرفها السياسي العربي ويعرف معها حدوده التي يجب أن يقف عندها في ظل أي خلاف فإنه لن يكون غريبا ولا مفاجئا أن تتكرر قصة خدام في عواصم عربية أخري وأن تصبح أوطاننا قابلة للاختراق مع أي خلاف سياسي عند سدة الحكم‏!.‏

لقد آن الأوان لكي يخرج العالم العربي من العباءة القبلية التي تحول أي خلاف سياسي في الداخل إلي ما يشبه نزاعات القبائل في قديم الزمن حيث نزعات الثأر والانتقام ورغبات التشفي وتصفية الحسابات‏.‏

ودون أن أغضب أحدا أو أن أتجاوز حدودا فإنني أستطيع أن ألخص ما أقدم عليه عبدالحليم خدام في أنه ربما يكون صحيحا أنه أزمة نظام في سوريا‏,‏ ولكن الأكثر صحة والأشد معقولية هو أنه انعكاس لأزمة يمر بها العالم العربي منذ سنوات وانه بدون حاجة إلي التلاعب بالألفاظ فإن الكل في محنة ولا سبيل للخروج منها إلا بسرعة الخروج من العقلية القبلية في التعاطي السياسي مع القضايا المصيرية‏!.‏

وليت أولئك الذين يتعاطون السياسة في عالمنا العربي وينعمون ببريقها أن يدركوا أن علاقات الخصام الإنساني شيء والانتقال بعلاقات الخصام السياسي إلي مناطق الخطر المحظورة شيء آخر‏!.‏

وعلي الذين صدعوا رؤوسنا من فوق مقاعد السلطة في العالم العربي بشعارات القومية والانتماء أن يدركوا أن الانتماء والقومية لايتأكدان سوي في الممارسة والسلوك الذي يؤكد مصداقية هذه الشعارات وتطابق الفعل مع القول‏!.‏

وأظن أن معظم ما شهدناه في الأيام الأخيرة كان عنوانا سيئا لغياب الانتماء والقومية والشعور بالمسئولية‏!.‏

هكذا قرأت الأحداث وفهمت الوقائع‏..‏ وعذرا إذا كنت قد شططت أو تجاوزت‏!.‏