موقع الرأي/ جان عبد الله

كانت سوريا الكبرى على مر الزمان مسرحاً للصراعات بين الامبراطوريات القديمة (مصر فارس واليونان ) التي عرفها الشرق الأدنى ومنذ أن أنشأها سلوقوس نيكاتور مؤسس الدولة السلوقية بين جبال طوروس والى طرابلس على الساحل ودمشق في الداخل واتخذ من انطاكية عاصمة لها تعرضت لخمسة حروب رئيسية كان آخرها الحرب الخامسة بين انطوخيوس في سوريا وبطليموس الرابع في مصر . يومها انتصرت سوريا

في معركة بانياس الفاصلة وتوحدت ضمن حدودها الكبرى ثم تحولت بعدها بين عامي 64 ق.م وحتى 395 ميلادية الى ولاية رومانية واعتبرت المتكأ الأساسي للأمبراطورية الرومانية والمقر شبه الرسمي لها في شرق البحر خاصة عندما تصارع قياصرة روما وانقسمت امبراطوريتهم بين غرب مركزه روما وشرق مركزه القسطنطينية. ولما جاء عام 540 ميلادية قاد كسرى انوشروان جيشاً تعداده ثلاثون ألفاً هاجم به سوريا ثمن طريق منبج وأحرق حلب ونهب انطاكية ودمرها وسبى أهلها الى قطيسفون ثم نهب افاميا دون تدميرها الى ان جاء كسرى الثاني (ابرويز) عام 611-614 فاجتاح الفرس للرمرة الثانية سوريا حاملين معهم الموت والدمار حيثما وطأت أقدامهم . فنهبوا دمشق عام 613 وأهلكوا عشر سكانها قتلاً وسبياً . ثم أحرقوا كنيسة القيامة في القدس .

الى ان انتزع العرب سوريا من البيزنطيين بعد عام 633 وجاءت الحقبة العثمانية التي اضحى لسوريا فيها دوراً امبراطورياً بين الأقاليم والأطراف وكانت مركزاً للحاميات ومعبراً للحملات .

نخلص الى القول أن سوريا كانت ولازالت هدفاً للصراعات في الشرق الأوسط والطريق اليها هو أكثر الطرق الاستراتيجية في المنطقة مقياساً للنفوذ خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين .

حتى اقليمياً كانت سوريا بعد اتفاقية سايكس بيكو مجالاً للتنافس على النفوذ بين الأسر الحاكمة مثل الهاشميين في بغداد والسعوديون في الرياض وأسرة محمد علي في مصر .

ويمكننا هنا أن نلاحظ ان السياسة الأمريكية الوارثة للنفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية كانت قد حددت هدفين لها (البترول والموقع الإستراتيجي) وظلت سوريا أحد هذين الهدفين كملتقى الطرق للسيطرة على المنطقة ولانزال نذكر تصريح جون فوستر دالاس وزير خارجيتها عام 1955 الذي قال فيه ان سوريا هي أكبر حاملة طائرات ثابتة على الأرض في الشرق الأدنى لأن موقعها يشكل نقطة توازن في الميزان الستراتيجي العالمي .

هذا بالنسبة للموقع الجغرافي والاستراتيجي لسوريا اما بالنسبة لدورها السياسي فيكفي ان نتذكر كلام المرحوم الرئيس شكري القوتلي للرئيس جمال عبد الناصر عام 1958 بعد ان وقع اتفاقية الوحدة بين البلدين إذ صاح شكري القوتلي بالرئيس عبد الناصر قائلاً : أريدك ان تعرف ماذا تسلمت . لقد تسلمت شعباً نصفه من الساسة المحترفين وربعه من القادة والزعماء اما الربع الباقي لعلمك ... رسل وأنبياء او هكذا يتصورون .

أما بعد عام 1970 فلقد استطاع حافظ الأسد أن يحول سوريا الى لاعب اقليمي بعد أن كانت أداة في لعبة الصراع الدولي بشكل بعيد بعض الشيء عن الشفافية في هذا الدور.

فنجده يحافظ على مواجهة علنية واعلامية متشددة مع اميركا وهو في نفس الوقت يهاودها ويلبي جميع مطالبها في غرف الدبلوماسية .

حالف الاتحاد السوفيتي دون ان يحارب الولايات المتحدة والغرب مستغلاً ظروف الحرب الباردة بينهما .

دخل الى لبنان بحجة ايقاف الحرب الأهلية لكنه استخدمه ورقة للضغط على اميركا واسرائيل دون ان يحرك ساكناً على جبهة الجولان .

شن في الداخل السوري حرباً على الاخوان المسلمين في نفس الوقت الذي دعم فيه الاخوان الفلسطينين مثل حماس والجهاد الاسلامي. سياسته كانت مزيجاً من تناقضات الظروف والايديولوجيا وظفها في خدمة اللاعب الدولي الكبير مع محافظته على الأمن والاستقرار في الداخل السوري نتيجة السياسة القمعية والاقصائية التي أدار بها حكمه .

بعد رحيل حافظ الأسد اختلت هذه المعادلات وتغيرت الظروف وخسرت سوريا دور لاعب المناورة بين الكبار في فترة الحرب الباردة والتي كان يتقنها الأسد الأب الى أن وفر مقتل الرئيس رفيق الحريري فرصة ذهبية للشعب اللبناني ولأميركا لملاحقة هذا النظام فسحبت اميركا سفيرتها في اليوم التالي من دمشق وتوقفت بعدها لغة الحوار السري بين الطرفين .

في الداخل أَنحر غازي كنعان رجل ا لنظام القوي في لبنان بنفس الطريقة التي أَنحر فيها عبد الكريم الجندي عام 1970 بشكل يدل على مدى اضطراب هذا النظام الذي خسر دوره كلاعب إقليمي وبدلاً من أن يصحح مساره ويقوم أخطائه أخذ يحاول لعب نفس الدور ولكن بشكل أخطر على الساحات العراقية واللبنانية والفلسطسنية موطداً علاقات استراتيجية مع إيران ذات الإمكانيات الإقتصادية القوية ومع حزب الله في جنوب لبنان في الوقت الذي فترت علاقاته مع مصر والسعودية وبدأ يستعد لمعركة البقاء ولكن في شكل مختلف وخطير ففي العراق ساهم بشكل غير منظور باشرخ الديمغرافي بين مكونات الشعب العراقي ويطبق الآن نفس الاستراتيجية في لبنان الذي لا يحتمل تكوينه مثل هذا اللعب ناهيك عن شق الصف الفلسطيني عن طريق احتضان بعض المنظمات وتصليحها لضرب السلطة التشريعية الفلسطينية وحرمانها من فرصة تشكيل الدولة الفلسطينية وهو في هذه الأادوار الإقليمية الخطيرة التي يحاول فيها حمياة استمراره ووجوده انما يؤدي بشكل غير مباشر الى تفتيت المنطقة العربية التي تعيش حالة من التشرزم والانقسام.

لكل هذا نجد أن سوريا تعيش اليوم أزمات سياسية وديمغرافية عميقة ومستعصية من جراء التراكمات التي تجمعت خلال السنوات الثلاثين الماضية وهي تهز المجتمع السوري بعنف لا سابق له لا يمكن تجاوزه باصلاحات جزئية أو فوقية .. في المقابل وبشكل يدعو الى التفاؤل نجد هناك حالة تحول هادئ في هذا المجتمع من انتقال من الحالة القمعية الى حالة الحرية والديمقراطية . وما نشاطات المجتمع المدني والمنتديات الفكرية التي أغلقتها السلطة إلا مؤشرات حقيقية لعملية الانتقال والتغيير القادم.

لذا فمن واجب جميع فصائل المعارضة والأطياف السياسية المختلفة الأخرى أن تعترف ببعضها البعض وأن تتبادل الثقة الضرورية لتستطيع صياغة برنامج للتغيير الوطني والديمقراطي يؤدي للمصلحة الوطنية والذي سيقود بالنتيجة الى توافق اجتماعي سلمي وانتخابات تسمح بالتداول الهادئ للسلطة .