الكفاح العربي/سعاد جروس

«كيف أصبح شاعراً وقد فقدت الدهشة»؟ عبارة ربما هي جملة لشاعر, لا أذكر متى قرأتها ولا من صاحبها, لكنها لا تنفك تقفز إلى ذاكرتي بين فترة وأخرى, كلما واجهت موقفاً يتطلب مني دهشة كبيرة, وعبثاً لا أجدها.

الفيلم الطويل الذي دخلت فيه سوريا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري, بات يمن كل يوم بقصة, أو خبر, تتيح للمواطن السوري الاندهاش المستمر دونما استراحة, دهشة لا تقل عن صدمة توازي الفجيعة أحياناً, وتفوقها غالباً؛ حتى صار الذهول المزمن جزءاً لا يتجزأ من ملامحنا الوطنية, إلى حد أحدث العكس, فصيَّر أي خبر مهما كان غريباً أو مفاجئاً, غير قادر على هز مشاعر شعب فقد الإحساس بالدهشة من فرط ملازمتها له. فلم يصدمه مؤخراً على سبيل المثال: مشهد نائب رئيس الجمهورية السابق عبد الحليم خدام يطل من قصره المنيف في باريس, ليتحدث عن فقر الشعب السوري وبحثه عن لقمته في الزبالة!! لم نستغرب طلته رغم الإثارة التي رافقتها, بل أن أحد السوريين رد عليه باسترخاء بأغنية أرسلها عبر الانترنت: «على دلعونة وعلى دلعونة طعمونا زبالة وبيعيرونا».

سيادة النائب السابق, لم ير الفقراء حين كان في دمشق, وله العذر, السبب زجاج سياراته الفيميه, وحراس بيوته وفيلاته وقصوره ومنتجعاته.اليوم تتيح له إقامته الباريسية في قصر اوناسيس مشاهدة فقراء سوريا والإحساس بآلامهم عن كثب, لكن بعد فوات الأوان, فقد باع أولاده سلسلة مطاعمه المتنوعة: الخمس نجوم, والوجبات السريعة والبطيئة. وكان من الممكن جداً, لولا رحيله لكتابة مذكراته, أن يحولها إلى تكايا لإطعام الفقراء الجوعانين, وعلى التأكيد لم يكن ليتردد في الإقدام على هكذا سخاء, لولا خشية من جائع إذا شبع. أما حديثه عن الديمقراطية والحريات فـ «ياسلام يا سلام أد أيه حلو الكلام» (وهي أغنية أخرى أرسلت إليه عبر الانترنت, تعقيباً على اتساع أفقه الديمقراطي) فلم ينس الناس بعد, عندما نزل النائب بكامل عتاده الحزبي الى كافة المحافظات السورية, ليزبد ويرعد مهدداً ربيع المجتمع المدني عام 2001, بشتاء قاس جداً, وأطلق جملته الشهيرة: «لا للجزأرة في سوريا» والجزأرة لمن لا يعرفها من الجزائر: البلد التي أنستها الحرب الأهلية ومذابح الأخوة, مليون شهيد في سبيل استقلالها (حرق السيد النائب الأخضر واليابس تحت أقدام المجتمع المدني, وحرض على دعاته, لتنطلق بعدها الأبواق تتهمهم بالعمالة للخارج ) هذا الخارج الذي يتكلم منه الآن.(وحين نقلت الصحف الإسرائيلية بأن قصره الباريسي, كان محجاً للمخابرات الفرنسية والاميركية والإسرائيلية, صمتنا دونما استغراب, هذا الطريق مآله يقود إلى الإسرائيليين, فلم العجب؟! علينا قبول الأمور كما هي, نحن المضحوك علينا بالصرماية العتيقة, لأن الكلام عن خدام ما كان ليصبح بهذه السلاسة والبلاغة لو لم يبادر هو بالانشقاق والهجوم. ألم نصمت حين شرح في اجتماع مع الصحفيين عام 2004 في محاضرة مسهبة منجزات السياسة الخارجية على يديه ومنجزات الحركة التصحيحية. وعندما سئل: ماذا عن تجديد هذه الحركة على الصعيد الداخلي, بعد عقود من الركود؟ ولماذا لم يسمح بصحافة سياسية يومية مستقلة؟ فأجاب دون أي حرج: ها أنتم تكتبون في الصحافة الخارجية, ولا أحد يقول لكم شيئاً, لماذا تريدون صحافة مستقلة؟

اليوم, ماذا نعلق أو نقول, (طبعاً دونما دهشة ولا مفاجأة ولا استغراب) عندما تحدث عن موظف كان راتبه (200)ل.س عام (1970), وتوفي اخيراً عن ثروة بلغت (4) مليارات دولار. وموظف آخر يعمل في الخطوط الجوية, تصل ثروته إلى (8) مليارات دولار.وبعد الحساب والجمع والطرح يضعنا خدام وزير الاقتصاد النجيب أمام حقيقة فادحة, بأن الدخل الصافي السنوي لهذين الرصيدين (700) مليون دولار, أي سدس ميزانية سوريا!! ليدفعنا إلى التحسر عليه, فهو وكل تاريخه العريق في الارتقاء والترقي, وعلاقاته مع الخارج وفي الداخل لم يحصد في ماراتون الفساد أكثر من مليار ومائة مليون دولار, حصيلة أمواله وأموال أولاده, أليس حراماً هذا الفارق الطبقي الفاحش بينه وبين رفاق أدنى منه؟ تسللوا الى السلطة بعده وربما خلسة, ولم يحسنوا التسلق مثله إلى أرفع مناصب في الدولة, لا يتفوق عليهم ولا يتعادل معهم, بل ويقصر عنهم بأشواط!! فإذا لم يكن سبب تقصيره غبن, أو خيبة, فربما في توجيه نداء استغاثة لمنظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية (ومعهم ميليس..لم لا؟! هذه قصة تلائم طموحاته) النظر بهذه القضية, لأن من حق خدام ورفاقه ممن جمعوا ثرواتهم من دم الشعب السوري, المساواة على الأقل في الحصص والتحاصص, فبذل العرق في شفط مقدرات البلد ليس لعبة ولا ملعبة, ولا يجوز نهائياً تحت أي بند أو اعتبار, أن يعطى لشافط أكثر من شافط. وإنما ليشفطوا بالعدل ويتشافطوا بالتساوي في بلد مفتوح للجميع, وكل حسب تاريخه وموقع نفوذه وشطارته, وليستغلوا الفرصة مادام الشعب ...صابر وراضي.

لا تحزني يا بلادي, إذا ما خانك الفاسدون وفر منك المارقون, وتخلى عنك اللصوص, ليذهبوا إلى بلاد بوش وبلير وسترو وشيراك (هؤلاء الذين اتفقوا على أن الجدير بالعقاب هو الشعب السوري وليس اللصوص.فكيف نصدق قراراتهم الدولية, ونواياهم الديمقراطية؟!).

يا بلادي لا تهتمي بهم, لأنهم لم يهتموا بك. أنتِ التي تستحقين الأجمل والأنقى, كوني جديرة بشهدائك وفقرائك وأطفالك وشبابك, لا تضيعي أرواح الشهداء سدى, ووفري للفقراء غداً يحفظ كرامتهم, وللأطفال أملاً بالمستقبل, وللشباب فرصاً بالمشاركة.

ليرحلوا عنا.... وليدعونا نأخذ فرصتنا الحقيقية في محاربة الفساد, لكن ليرحلوا عنا, ألم يقفوا دائماً حجر عثرة في وجه أي تغيير يعيد لسوريا روحها ورشدها وتطلعاتها؟
ليرحلوا عنا...وعزاؤنا نحن السوريين فاقدي الدهشة, رئيس يؤمن بشبابنا ونؤمن بشبابه كما نؤمن بقدرتنا على كتابة قصيدة للتاريخ القادم, لكن ليرحلوا عنا.