السفير/خالد صاغيّة

طيلة الحقبة السابقة في لبنان، لم تتمكّن السيطرة السورية من التحوّل في أي لحظة إلى هيمنة سورية. فقد بقي خطاب السلطة، وشرعيّة السلطة، على الدوام، مشكوكاً بأمرهما. حتّى الإجماع على المقاومة لم يكن أكثر من كذبة سار الجميع فيها ظنّاً منهم أنّ تلك هي الطريقة الأفضل لخداع بعضهم بعضاً. إنّ مصدر خطورة السلطة الحالية أنّها مشروع هيمنة سائر في نفي أي خطاب معاكس. وتحت شعارات الحرية والاستقلال، يصبح كلّ اعتراض عمالةً لسوريا، وعرقلة لمسيرة بناء الدولة العتيدة.

الفارق كبير بين ما جرى في السابع من آب العام 2001، وما جرى قبل أيام في ساحة رياض الصلح. لكنّ الفارق الرئيسي لا يطال حجم القمع وأدواته. إنّه يطال الخطاب المرافق لهذا القمع. فعلى عكس الحقبة السورية التي كانت السلطة القامعة توصف فيها بالجلاد، بقي القمع الآن من صنع السلطة، أمّا وصف الجلاد فصار للمتظاهرين.

وسنجد تنظيمات من اليمين واليسار تساند قمع السلطة، فيما تتطوّع وسائل إعلامية <<ليبرالية>> للسخرية من أشكال المتظاهرين وشعاراتهم وأساليبهم التعبيرية. فالبيض الذي حمله المتظاهرون كان محاولة سورية الهدف منها إصابة السلطة اللبنانية بإنفلونزا الطيور.

بالمعنى نفسه، يبدو الفارق كبيراً أيضاً بين الوصاية السورية والوصاية الأميركية. لكنّ الفارق الرئيسي لا يطال مدى تلك الوصاية ووقاحتها وأدواتها. إنّه يطال مرّة أخرى الخطاب المرافق لهذه الوصاية. فالسلطة التابعة لسوريا كانت توصف بالسلطة التابعة. يُشكى منها دائماً لأنّها تابعة. ويُغفَر لها أحياناً لأنّها تابعة. أمّا اليوم، فالسلطة التي قد تتحرّك على إيقاع السياسة الأميركية، تبقى مصنّفة كحركة استقلالية. وسنجد تنظيمات من اليسار واليمين تساند التبعية وتسخر من كلّ من يتجرّأ على لفظ كلمة <<إمبريالية>> التي تنتمي على ما يبدو، بعكس كلمة <<ديموقراطية>>، إلى لغة خشبية.

إلا أنّ ممارسة هذه الهيمنة لن يقدّر لها النجاح ما لم تتمكّن <<الكتلة التاريخية>> للرابع عشر من آذار من أن تعزل <<حزب الله>> عن المجتمع تماماً، عبر تصويره كحزب خارج عن القانون، ليس القانون اللبناني فحسب، إنّما القانون الدولي أيضاً. يتطلّب ذلك أساساً فصله عن قوى يمكن لها أن تجاريه، وتعطي معركته بعداً آخر. أمر شبيه بما حاولت السلطة الإسرائيلية أن تفعله مع المقاومة الفلسطينية. وهنا تكمن أهمية إشارة وليد جنبلاط إلى ملف الحزب مع الشيوعيين. فالسيد جنبلاط لم يقصد فتح ملفّات الحرب. وهو آخر من يناسبه فتح ملفات كهذه. لكنّ متابعة تفكيك الحزب الشيوعي اللبناني أصبحت مهمّة ملحّة بعدما رعى السيّد جنبلاط انشقاقاً أوّل، ويحاول الآن تأجيج انشقاق ثانٍ. فعلى أي خطاب مناهض للتدخّل الأميركي ومحذّر من الغزوات الإمبريالية أن يصمت، لأنّ فيه ضرباً لهيمنة السلطة. هكذا تعمد فصائل يسارية منضوية في السلطة الترويج للإمبريالية بحجّة التحديث والدمقرطة. وإذا ما وضعنا الانتهازيّة جانباً، فإنّ هذه الفصائل تجد في التراث اليساري ما يدعّم وجهة نظرها، بدءاً من نقاشات الأممية الثانية التي وقفت لها روزا لوكسمبورغ في المرصاد، مروراً بأفكار إدوارد برنشتاين حول أحقيّة <<الحضارات الأعلى>> بالغزو كونها الأقدر على استثمار موارد الأرض المغزوّة، ولا تنتهي سلسلة إلهاماتها ب<<بيل وارن>>، صاحب كتاب <<الإمبريالية رائدة الرأسمالية>>.

ليس من المفيد في شيء اعتبار ما يقوم به وليد جنبلاط <<حفلات جنون>>. وليس من المفيد إطلاق الاتّهامات بحقّه، واستعادة <<إنجازاته>> خلال الحرب اللبنانية. كما ليس من المفيد التعمّق في النظر إلى دوافعه التي قد تبدأ بخوفه المحقّ على حياته، ولا تنتهي بمصالحه الضيقة. المهمّ أنّ وليد جنبلاط <<بقّ البحصة>> التي كانت عالقة في حلق الرابع عشر من آذار. من الآن فصاعداً، اللعب على المكشوف.