جاء نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني إلى المنطقة، فتصاعد الهياج من جديد ضد السياسات الأميركية، والتي لا ينفرد اليساريون العرب والأميركيون باعتبار ديك تشيني مسؤولاً عنها أو عن استمرارها على الأقلّ•

تحدث تشيني في مصر والسعودية عن موضوعاتٍ عدة أهمُّها اثنان: العراق وفلسطين• في العراق أراد من العرب الكبار دعماً أوثقَ وأكثر التزاماً تُجاه الأوضاع الجديدة بعد الانتخابات• وفي فلسطين عرض على العرب في المقابل الإنجازات التي تحققت للأراضي المحتلة- وبفضل الضغط الأميركي- وآخِرُها إدخال القدس الشرقية في العملية الانتخابية• الموضوع الثالث الذي كان لا بد له أن يطرقهُ باعتباره مسوِّغَ كلّ شيء آخر هو موضوعُ مكافحة الإرهاب• فالإرهابيون يتهددون كل شيء، ومن صالح الأميركيين والعرب استمرار التصدي لهم بقوة في العراق وفلسطين، وفي غير العراق وفلسطين! وكانت تلك المقدّمة الملائمة عند تشيني لطرح موضوع لبنان ثم العلاقة السورية-اللبنانية• قال المسؤول الأميركي: يُهمُّنا لبنان لثلاثة أمور: كشف الجرائم التي هددت وتهدد الاستقرار، وهذه تولاّها وسيتولاها التحقيق الدولي، والنهضة الديمقراطية التي أعلنت التمرد على الاستتباع السوري، وما يزال السوريون يحاولون إحباطها، ومسألة الميليشيات المسلَّحة الباقية بلبنان وأهمُّها ’’حزب الله’’• وما اختلف معه المسؤولون العرب في تحديد المشكلات، لكنهم اختلفوا معه في طرائق حلّها في لبنان، وفي ما بين سوريا ولبنان• فتشيني لا يرى سبيلاً لإعانة التجربة الديمقراطية البازغة بلبنان إلاّ عن طريق الضغط على سوريا لأجل وقف تدخلاتها، وإرغام ’’حزب الله’’، و’’الميليشيات’’ الفلسطينية التابعة لسوريا على نزع سلاحها والخضوع للقانون• وقد اعترف العـرب للنظام السوري بالتعاوُن ’’الجيد’’ مع التحقيق الدولي وإنْ بعد ترددٍ وصعوبة• كما أنهم شكوا منه لأنه ما يزالُ يتدخل في المشهد الداخلي اللبناني بأشكالٍ غير ملائمة• لكنّ المصريين والسعوديين على حدٍ سواء ’’مهجوسون’’ بما جرى ويجري في العراق، ولا يريدون لذلك أن يتكرر في سوريا• فزعزعةُ الاستقرار في سوريا بتحريك الجيش، أو فئات المجتمع المدني، أو هُما معاً، توشكُ ان تُسيئَ للوضع بالعراق أكثر مما هو سيئ، وتفتح المزيد من أبواب الشقاء والاضطراب على سوريا والأردنّ ولبنان وربما الخليج• أمّا ’’حزبُ الله’’ فيحتاج للاستيعاب بطريقةٍ هادئةٍ وطويلة المدى، إذ هو قد جمع من ورائه أكثرية الطائفة الشيعية، وهي لا يمكن التصدّي لها بالقوة كما حدث مع الطائفة المارونية؛ لأننا بذلك نُسَرّعُ تجدد النزاع الداخلي المسلَّح، وربما بأطرافٍ جديدةٍ هذه المرة أومُضافة، أي السنة إضافةً لجعجع و’’حزب الله’’ وجنبلاط•

ويختلف الأميركيون مع المصريين والسعوديين حول هذه الرؤية دونما حسْمٍ إلى شهورٍ آتية، ربما إلى ما بعد استتباب الأمور في العراق، وإجراء الانتخابات الفلسطينية والإسرائيلية، ومعرفة التركيبات التي سوف تسودُ للسنوات القادمة في تلك البلدان• يقول الأميركيون إنهم يعرفون هشاشة الوضع بلبنان، وقد تراجعت في الشهرين الأخيرين قدرة حكومة السنيورة على الحركة والتصرف• لكنهم لا يستطيعون التسليم لحزب الله بالخروج على القرارات الدولية• وبخاصةٍ أنّ صعود التوتر مع إيران يزيد من احتمالات إقدام الحزب على تجاوُز الحدود اللبنانية بقذائفه كما كان يفعلُ دائماً• وإذا كان العربُ لا يستطيعون التأثير في ’’حزب الله’’ لصالح الاستقرار وقيام السلطة الواحدة بلبنان، فإنهم يستطيعون ذلك مع سوريا التي يريدون حمايةَ استقرارها• فلولا الضغوط الدوليةُ لما انسحبت من لبنان، ولولا الضغوط الدولية لما أرسلت كبار موظفيها الأمنيين إلى التحقيق•

ليست الولايات المتحدةُ جمعيةً خيرية، وقد أثبتت ذلك على أسوأ الوجوه في السنوات الأخيرة بعد أن غزت أفغانستان والعراق، ونشرت الاضطراب في الشرق الأوسط• ومن أجل ذلك فإنّ حذَرَ المسؤولين العرب مفهوم؛ وبخاصةٍ أنه طُلب منهم في السنوات الثلاث الأخيرة -ومن جانب الأميركيين- القيام بعدة أمورٍ متناقضة: مثل ملاحقة جماعات الإسلام السياسي بدون تمييز بعد11/9 مباشرةً، ثم الطلب أواسـط عام 2005 السماح للإسلاميين المعتدلين بالمشاركة في الانتخابات، والتحريم على العرب كلَّ تدخُّلٍ بالعراق وترك الأمر للولايات المتحدة والآتين معها من الشيعة والأكراد، وإلى الطلب أخيراً من العرب أن يُسهموا بكل سبيلٍ لتهدئة السنة هناك، بعد أن سيطرت إيران على الموقف، بينما الجيش الأميركي الجرار مهتمٌّ بالتصدّي لمسلَّحي الزرقاوي! هذا كلُّه مفهوم• لكنّ غير المفهوم هو ما يقومُ به المعلّقون العرب الذين ما يزالون يتحركون تحت الرايات الخفاّقة للقومية العربية، ويريدون حماية النظام السوري من الولايات المتحدة وضغوطها! أيُّ وظيفةٍ ’’قوميةٍ’’ بقيت للنظام السوري في لبنان؟ وهل تُخدمُ القضايا القومية بالاغتيالات والأعمال المسلَّحة والمسلحين (تحت اسم ’’القاعدة’’ و’’عصبة الأنصار’’•••الخ) وعلى أرض لبنان؟ إذا أعلن بعض اللبنانيين (وبطريقةٍ عصبيةٍ أحياناً)، أم أنهم منزعجون من الاغتيالات المستمرة، ومن فوضى السلاح والإرهاب على أرضهم، سارع الإخوة العربُ إلى فهم ذلك في سياق التصدي لأميركا وإسرائيل• بل والأعجبُ من ذلك اعتبار أنّ كلَّ مَنْ يطمحُ لاستقرار لبنان، إنما يدخُلُ في الجبهة الأميركية/ الإسرائيلية! ولماذا لا يذكر المعلقون العرب هذه ’’المآثر’’ للنظام، مثلما يتناسون أعمال الاضطراب والاغتيال والاقلاق بلبنان؟!

أما الحجة الثانيةُ لعدم الاهتمام بالتغيير بلبنان لدى المعلّقين والسياسيين العرب فمؤدَّاها أنهم يخشون الفتنة بين السنة والشيعة• ولو تأملْنا تعبيرات الخشية من الفتنة خلال الشهور الماضية، لوجدْنا أكثرها آتيةً من جانب ’’حزب الله’’ وحركة ’’أمل’’، وهذا كلُّه قبل هياج وليد جنبلاط الأخير• فالإصرار على التحقيق الدولي في اغتيال الحريري يبعثُ على الفتنة من وجهة نظرهم، والإصرارُ على رفض تدخلات النظام السوري من بواعث الفتنة أيضاً• أمّا التجرؤ في الحديث ولو همساً عن سلاح ’’حزب الله’’، فكفيلٌ بأن يُدخِلَنا نحن إلى جهنّم حالاً، لكنْ بعد المرور بالتحالف الأميركي الصهيوني! لا سلاح معنا، ولا نسعى للحصول على سلاح• وقد غزا الجنبلاطيون والبريّون مُدُنَنا في الثمانينيات بمساعدة النظام القومي العربي فاختبأْنا في بيوتِنا سنواتٍ وسنوات، وكان كلُّ مَنْ يُطلُّ برأْسهِ من وراء النافذة يُتّهمُ بأنه عرفاتي أو ’’موساد’’! وجاء رفيق الحريري فخرجَنَا من تحت الأرض، وعدنا كما عادت البلاد، وبمساعدة العرب، إلى الحالة شبه المدنية؛ ومع ذلك فقبل أيام يقول السيد حسن نصر الله إنه ما يزالُ حليفاً للنظام السوري لأنه لم يثبُتْ على ذاك النظام شيء في قضية مقتل رفيق الحريري! كيف لم يثبت عليه شيء رغم أنّ المحققين وجدوا أكثر من عشرين مشتبهاً بهم حتى الآن كلُّهم من السوريين وأعوانهم• وما ثبت عليه شيء رغم أنّ رأسَ النظام السوري مطلوبٌ الاستماعُ إليه مع وزير خارجيته المقـدام• وما ثبت عليه شـيء رغم أنّ مئات المسلَّحين وعشرات ألـوف قِطـع السِلاح تُسَرَّبَ إلـى لبنان مـن سوريا إعداداً ربمـا لحربٍ أُخـرى على اللبنانيين•

لا إنقاذ إلاّ بالتدخل العربي وإن بموافقةٍ دولية• وما يقولُهُ وليد جنبلاط وبعض الداخلين في تيار المستقبل عن التنازلات لصالح سوريا يعبّر عن مخاوف لا مُبرّر لها• وقد قال الأمير سعود الفيصل قبل أيام إنه أرسل إلى السوريين واللبنانيين ورقةً طلب إليهم الإجابةَ على أسئلتها، أي أنه طلب من كلٍ منهم تحديد شروطه ومصالحه في علاقاتٍ طبيعيةٍ ومتوازنة• وأنا أرى أنَّ هناك أمرين اثنين وحسْب على العرب مساعدتنا للحصول عليهما عاجلاً: إيقاف الاغتيالات وأعمال التفجير، وإيقاف تسريب السلاح والمسلَّحين• هذان أمران حيويان، ما ملكْنا في مواجهتهما غير الصُراخ الإعلامي حتى الآن• وأعتقد أننا كنا نملكُ دائماً دون أن ندري؛ الموقف العربي المصريَّ والسعوديَّ، القائل بالاستقرار في سوريا ولبنان• فالذين يريدون الاستقرار في سوريا، لا يمكن أن يكونوا ضدَّ الاستقرار اللبناني: نحن نريد الاستقرار في بلادنا والعربُ كذلك، والمهمُّ أن يقتنع الإخوةُ السوريون أنّ الاستقرار اللبنانيَّ لا يضُرُّهُم!

وحالاتُ الزمان عليك شتى

وحالُكَ واحدٌ في كلّ حالِ