عندما كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يلقي، قبل أيام، خطابه عن استراتيجية الردع النووي وتكييفها مع التهديدات الجديدة، كان في ذهنه، على الأرجح، رجل واحد: محمود أحمدي نجاد. هذا ما يوحي به <<جديد>> الخطاب، وهذا ما استنتجه معظم المعلقين عليه.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها شيراك عن ضرورة تكييف الاستراتيجية النووية الفرنسية. إلا أنه فعل ذلك هذه المرة على خلفية تطورات سياسية، وبعد أحداث فائقة الأهمية في هذه المنطقة، جعلت الكلمة موجهة إلى دول بعينها وقيادات وأنظمة وأفكار.
يمكن تقسيم الخطاب إلى شقين: الثابت والمتحول.

الثابت عند الرئيس الفرنسي هو أن <<النووي>> لا يزال مرتكز الدفاع الاستراتيجي عن فرنسا وعن مصالحها الحيوية: حرمة الأرض الوطنية، حماية السكان، الممارسة الحرة للسيادة، ضمان وصول المواد الاستراتيجية.

إلى ذلك، أكد شيراك تفضيله للنظام الدولي المبني على القانون والأمن الجماعي وذلك في إشارة واضحة إلى رفضه أي انفراد، وإلى اهتمامه بدور الهيئات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن حيث تملك باريس حق النقض.

رفض، مرة أخرى، استخدام النووي في نزاع عسكري تقليدي، وكرّر عدم الاكتفاء بمنظومات الدفاع لأنها قابلة للاختراق. وأكد، غير مرة، أن النظام الفرنسي يتيح للرئيس أن يكون المرجع الأخير للتقدير والتقرير.

لا جديد في ما تقدم.

الجديد، وهو كان آخذاً في التبلور منذ فترة، ان فرنسا عليها أن تأخذ علماً بالتحولات الطارئة على المشهد العالمي وأن تتأقلم معها. والتحول الأول، بهذا المعنى، هو انعدام وجود تهديدات صادرة عن قوى عظمى معادية وذلك منذ انتهاء <<الثنائية القطبية>> والمسار الجديد فوق المسرح الأوروبي. لقد كان النووي الفرنسي، في الأساس، محاولة من الجنرال ديغول للاستقلال الأمني ضمن التحالف السياسي الأطلسي، وكان يقال عن هذا السلاح إنه من النوع غير القابل للاستخدام، فكم بالحري وقد حصل ما حصل بحيث إن المفعول الردعي أُبطل نتيجة فقدان مَن تصلح ممارسة الردع عليه.
لكن خطراً زال وخطراً برز. الخطر الجديد في عرف شيراك هو <<انتشار أفكار راديكالية تبشّر بالمواجهة بين الحضارات والثقافات والأديان>>. يضيف أن <<إرادة المواجهة تترجم نفسها اليوم بتفجيرات مقيتة تذكّرنا بأن التصلب واللاتسامح يقودان إلى الأعمال الجنونية كلها، ولكنها غداً قد تتخذ أشكالاً أخرى أكثر خطورة ويمكن لها أن تقحم دولاً>>. إن <<الإرهاب>> هو العدو الجديد إذاً، وهو قابل لأن يتجسّد في دولة.

أضف إلى ذلك أن العالم الذي يمر في حالة سيولة يشهد ظهور دواع جديدة لانعدام الاستقرار: تقاسم الموارد الأولية، توزيع الموارد الطبيعية، تطور التوازنات الديموغرافية... لقد اكتفى شيراك، هنا، بالإيحاء دون التصريح، وبقيت مقاصده من الإشارة إلى هذه العناوين ملتبسة.

في ظل المعطيات الجديدة، وفي ظل بروز دول تطور أسلحة دمار شامل ووسائط باليستية لحملها، وفي ظل أن القوة تبقى عنصراً ضرورياً كي تكون الكلمة مسموعة، وفي ظل احتمال الاضطرار للتدخل خارج الحدود، طرح الرئيس الفرنسي أهمية التركيز على الأسلحة التي لا تجعل الخيار محصوراً بين الشلل والإبادة الشاملة. إنها، بكلام آخر، الأسلحة النووية التكتيكية التي ذكر أن فرنسا مهتمة بتطويرها. إلا أنه سارع هنا إلى الاستدراك بأن هذه الأسلحة ليست موجهة ضد <<إرهابيين متعصبين>> وإنما ضد <<قادة دول>> وضد <<مراكز سلطة>> معادية، وضد <<قدرة هذه السلطة على الفعل>> (أضاف طبعاً أن الوضع الناشئ في أوروبا يسمح بعرض امتداد هذه المظلة على حلفاء إذا أرادوا).

ليس صعباً جداً أن نخرج من المعادلة التي طرحها شيراك بتصور للخصم الافتراضي الذي تصاغ العقيدة الجديدة في وجهه: أفكار راديكالية زائد مواجهة بين الحضارات زائد تطوير أسلحة غير تقليدية زائد وسائط نقل زائد قادة دول... إن جمع هذه العناصر إلى بعضها يرسم، مثل البازل، صورة الرئيس الإيراني (والقيادة الإيرانية) محمود أحمدي نجاد. لا تنطبق هذه الأوصاف مجتمعة على أحد غيره... حتى الآن على الأقل.

تندرج الاستراتيجية الجديدة في سياق التفكير الذي تعيشه العواصم الغربية لتأطير تعاطيها مع المعطيات الجديدة في ظل انتفاء التهديد بالإبادة الشاملة وحلول تحديات ومخاطر أخرى محله. وليس سراً أن الولايات المتحدة كانت السباقة في هذا المجال. ولكن الفرق بينها وبين فرنسا هو أن واشنطن لا تتردد في الإعلان أن في إمكانها استخدام السلاح النووي التكتيكي ضد دول وأطراف غير نووية، ولو بشكل استباقي. هذا ما لا تقوله باريس ولو أن شيراك لم يحسم في أنه يعتقد عكس ذلك.