فائز البرازي

الصراع على سوريا ليس عنواناً جديداً على الساحة السياسية والمواقف الإستراتيجية. فهو قديم وكتب عنه كتب ومقالات ودراسات. ومع الأسف فقد غيبت هذه النظرة لصالح صراعات إقليمية وقطرية وحزبية وايديولوجية، بل حتى إثنية وطائفية.

وفي التاريخ القريب منذ الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية وما تبعها من تقسيمات نفوذ عالمية وصولاً إلى مرحلة الإستقلال ضمن صراع النفوذبين فرنسا وإنكلترا وأمريكا، كانت نتيجته حسم هذا الصراع "مؤقتاً" – كما في السياسة والمتغيرات – لصالح فرنسا. وبقيت كذلك حتى (إنقلاب الزعيم العسكري) بدخول أمريكا مجددآ في الصراع وتجدده المتشعب في الخمسينات ودخول أطراف إقليمية أخرى لا تخرج في التوجه من الإنحياز لقوى الصراع الدولي: فرنسا، إنكلترا، أمريكا: من الهلال الخصيب، تركيا، والأردن، والسعودية، ومصر. مع التوجه لصد الإستراتيجية السوفييتية، مع ما رافق تلك المرحلة من توهج لمرحلة قومية عربية تتصدى لمحاولات الأحلاف تلك وصراعاتها. مرحلة قومية في إنتصاراتها وهزائمها وهي تحاول الإبتعاد عن "لعبة الأمم" أو تجييرها قدر المستطاع لحماية نفسها.

اليوم .. وفي القرن الواحد والعشرين، ومع ضغط الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية داخل الدول العالمية، والتي إنتهجت سياسة إستعمارية لحل مشاكلها سابقآ والآن، زادت حدة الصراع على مناطق النفوذ وتكثفت دمويته ولا أخلاقياته. ومعظمنا لا يزال يغيب "هذا المنطلق" في تعامله مع السياسة لصالح المنطوق الحزبي والإختلافات الشخصية والأيديولوجية والإثنية والطائفية. حتى في تحويل خلاف المواقف والآراء السياسية إلى خلافات "كره أو حب" شخصية تصل إلى حد العداء المدمر.

وعندما أتناول هذا الوضع الصراعي – الصراع على سوريا – الناتج عن التاريخ والجغرافيا والإستراتيجية والمصالح، فإنني أوضح بداية القوى في هذا الصراع ثم طبيعة هذه القوى وتوجهاتها: الدول العالمية الإستعمارية – القوى الإقليمية – الأنظمة – المثقفون – المجتمع، ولا أقول هنا "الشعب".

الدول العالمية والقوى الإقليمية

السياسة الدولية تقوم على المصالح، وبالتالي فإن التحالفات المتغيرة مبنية على إمكانية تحقيق أكبرقدر ممكن من المصلحة. هذه السياسة وبإفرازات قراراتها لا تأتي إعتباطآ أو رغبة أو شطحة. بل إنها تقوم على نتائج أبحاث ودراسات تقوم بها معاهد ومؤسسات بحثية وإحصائية حيث تقدم الخيارات وتفسيراتها وإحتمالاتها وإيجابياتها وسلبياتها لكل خطوة يمكن أن يقدم عليها (صناع القرار)، بغض النظر عن مدى النجاح أو الفشل النسبي في ذلك أثناء التنفيذ بما يدخل على ذلك من عوامل طارئة أو غير مرئية لم تكن في الحسبان، والتي يمكن أن نسميها "مكر التاريخ". ولكن يبقى ذلك أصح وأسلم (لمتخذي القرار) من غياب الرؤية الشاملة أو الخوض في الإرتجال أو فردية القرار عند إتخاذه.

واليوم وضمن الصراع على النفوذ في المنطقة لحصد المكاسب والمصالح، يظهر إصطفافآ للقوى بين: أمريكا وفرنسا أساساً، تليه الصين وروسيا بدرجات أخف حيث أنهما محكومتان بعوامل ومشاكل داخلية أكثر. سياسية وإقتصادية تدفعهما لأن يتجنبا "عين الإعصار" قدر الإمكان، في الوقت الذي لا يستطيعان الإبتعاد إستراتيجيآ عما يجري. اليوم .. المعركة الإستراتيجية الأساسية هي بين: أمريكا وفرنسا، رغم صور تقاربهما. وهذا خاضع لطبيعة الهدف، وأسلوب ورؤى تحقيقه.

أمريكا تنطلق من سياسة إستراتيجية تقول: بضرورة الهيمنة على المنطقة للهيمنة على العالم إستراتيجياً وإقتصادياً. "البترول". وضرورة تفكيك المنطقة لتلافي خطر مستقبلي يمكن أن يهدد "إسرائيل" الركيزة الأساسية الموثوقة في المنطقة. ومن خلال ذلك تقوم بنشر ثقافتها على المدى الطويل في الشعب والأجيال القادمة بحيث تصطبغ الحياة العامة والسياسية والثقافية المقبلة، بالصبغة (الأمريكية). ولا يهمها في ذلك: من يحكم هنا، أو ايديولوجيته، أو معاني الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في هذه المنطقة، ولأن ذلك يشكل أيضآ خطرآ مستقبليآ عليها. وتستخدم في صراعها جميع الأدوات التي تخلقها، أو التي نوفرها نحن لها ، من صراعات إثنية وطائفية. فهي غير مهتمة مثلآ بقوميات المنطقة: عرب، أكراد ... فلم تكن المشكلة الكردية ولن تكون إلا أداة من أدوات إستراتيجيتها وصراعها. وهي غير مهتمة بحروب "ملوك الطوائف" الدينية: سنية، شيعية، مسيحية، دروز، إلا بكون ذلك أداة من أدواتها. وهو وضع مشابه – قوميآ ودينيآ – لتكوينها وتاريخها وتركيبتها الآن. وفي النهاية فما يهمها وجود أنظمة مهما كان شكلها أو تصرفاتها أو منبعها، طالما أنها تحقق لها ما تريد، ضمن إستراتيجيتها العامة.

أما "فرنسا": وهي التي تعرف يقينآ إستراتيجية أمريكا، فلها إستراتيجية أخرى "دفاعاً عن مصالحها". وتقوم على إيجاد مناطق نفوذ لها تتصدى للإستراتيجية الأمريكية، منعآ للهيمنة الأمريكية عليها وعلى العالم مستقبلاً. وهي في ذلك تصطف في تحالفات تعرف عنها أكثر من غيرها. تصطف في تحالفات إستراتيجية طائفية تحكم المنطقة في الوجدان والضمير يصعب الفكاك منها حتى الآن. حيث هي متيقنة أن ذلك "الإصطفاف الطائفي" هو أقوى من "الإصطفاف الوطني" أو المصلحي. وهذا ما كانت عليه نتائج الإستفتاءات والبحوث – المؤسسة الدولية للمعلومات – مؤخراً، والتي أظهرت أن الإنحياز الشعبي للطائفة، يفوق كثيراً الإنحياز للوطن، خاصة عند تصادم المصالح.

وفي ذات الوقت فإن (سوريا ولبنان) من أكثر المناطق الهامة من مناطق النفوذ الفرنسية، وأكثر المناطق الإستراتيجية التي تركت فرنسا بصمتها على بعض القوى الأهلية والسياسية والمذهبية فيها. وهذا عامل أساسي وإستراتيجي يحسب لصالح فرنسا، على حساب النفوذ الأمريكي.

وتتجادل هذه الأدوار للدول العالمية، مع أدوار القوى الإقليمية في المنطقة، إصطفافآ مع هذا الطرف أو ذاك، وبما يعزز "المصالح الإقليمية" لهذه القوة أو تلك.

والتوصيف الدولي الحالي للوضع في المنطقة: أن هناك إصطفافاً "شيعياً" من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى لبنان، يشكل محوراً (متناسق المصالح السياسية والإقليمية)، وقد عبر عنه "ملك الأردن" بكل وضوح وصراحة، متخوفاً منه. وهذا لا يهم أمريكا كثيراً إلا بقدر ما تطالب به من تقاطعات يقدم عليها ويخدم مصالحها. وفي المقابل: تحاول "فرنسا" خلق محور آخر يواجه لك المحور، يتشكل من بعض سنة العراق، وسنة سوريا، وسنة لبنان المتحالفين مع المسيحيين والدروز. ويضم قوى إقليمية كدول الخليج العربي، نتيجة إمكانية تأثير الشيعة في إختلال الأوضاع السياسية والأمنية في الخليج والمستقرة حتى الآن، والذي نرى بدايات الإختلال هذا في "البحرين".

هذا الإصطفاف السني من: كتلة الحريري، وبموافقة الدروز والمارونيين المسيحيين، إضافة للإلتحاق الحالي وإصطفاف "عبد الحليم خدام" من سوريا معهم، ومغازلته "للإخوان المسلمين" وإعلانهم – الإخوان – على موافقتهم بالتعاون مع خدام في سبيل إسقاط النظام – كيف ؟ مع بعض التحفظات الشكلية "كالإعتذار"، والملتقي مع دعوة "جنبلاط (لإحتلال سوريا)، وتشجيعه المعارضة السورية على طلب (التدويل). وبدء شذوذ السعودية عن الإلتصاق بأمريكا، بعد إستشعارها بالخطر الأمريكي عليها من جهة، والخطر الشيعي من جهة أخرى، بما يدفعها للتنسيق مع فرنسا على حساب أمريكا.

أما (مصر) فإنها تعمل على أن لا ينتقل الحريق والصراع إليها وبما يهدد أمنها ووضعها، وإن تحاول الإبتعاد عن كونها "الجائزة الكبرى" المطلوبة.

و(إسرائيل) ترى أن تحالفها مع "أمريكا" مضمون. وقادرة على إستمراريته بكل الوسائل، وغير قابل للرهان أو للألعاب السياسية. فترى أن دخول فرنسا "الأوروبية" التي لن تنسى لها مواقفها المسبقة، سيشكل نقطة ضغط عليها هي في غنى عنها. إذ لا يهمها "المنطق الطائفي" السابق إلا بكونه صراعآ يضعف القوى المقابلة لها. وبالتالي فهي مع بقاء النظام السوري تحت الضغط والتصارع، عن أن تتفجر الأوضاع الحالية في المنطقة، والذي قد يأتي هذا التفجير بقوى أخرى (منفلشة) تسبب لها إقليمياً وجعآ في الرأس.

أما (إيران): وبتداخل منطق "التقية" مع المنطق "المكيافيلي" مع منطق "القومية الفارسية"، فإن سياساتها بالشكل العام تظهر قدراً من الطموح المستقبلي لتكون اللاعب الرئيسي والأقوى في المنطقة،مستعيدة دور (إيران / الشاه) وإن بمنظور ايديولوجي ومصلحي مختلف. وما يتم من إصطفافات وتحالفات، فما هي إلا تكتيكات إستراتيجية مرحلية لا غنى عنها وصولاً إلى الهدف الأبعد.

لماذا (الصراع على سوريا) قديماً وحديثاً؟ .. لأنها المؤهلة جغرافياً وإستراتيجياً وسياسياً، بأن تكون هي "المفتاح" والمرتكز ضمن هذا الصراع الدولي.

الأنظمة

وعلى طول المسار التاريخي للمنطقة، فإن "الأنظمة" على تنوعها وتعددها كانت ولا شك، ناتجة عن (إفرازات المجتمع) والأوضاع السياسية والثقافية والمجتمعية. ففي سوريا ومنذ "العابد" 1932 وحتى الآن لم تحظ بتأييد نسبي كبير رغم تنوعها وتعددها. وما ينطبق على سوريا ينطبق على باقي دول المنطقة. وبالمختصر فإن الإقرار بذلك يضعنا أمام عدة أسباب على سبيل المثال لا الحصر ولا الحكم والنقد: ظروف تشكل العقل العربي – ثقافة الرفض المجتمعية – غياب الوعي والمعرفة الشعبية – ثقافة الإستبداد إنطلاقآ من الفرد حتى النظام.

والأهم كمسبب رئيسي هو: (التخلف). فالأنظمة ضمن هذا التوصيف هي وإن كانت فاعلة في ذلك، إلا أنها مفعولاً به على مسار تواجدها وإفرازها بأي صيغة أتت به. وهمها الأكبر الحفاظ على التواجد في القمة والسيطرة والفائدة المادية والمعنوية وإستمرارها في ذلك.

المثقفون

وهم في الواقع منقسمون إلى عدة فئات:

_- فئة المستفيدين من السلطة "فقهاء السلطان".

_- فئة النرجسيين وهمهم الوحيد "أنا" المفخمة إسماً وبريقاً ومديحاً وحتى هجاءً بما يظهرهم.

_- فئة المسحوقين : إقتصادياً ونفسياً وقهرياً.

_- فئة متجاوزة كل ما سبق مع ما تتضمنه في وجدانها بعض ما سبق، لكن متجاوزة له، منحازة إلى عقلها وإحترامها لذاتها ولدورها، على ندرتهم.

ويجب أن لا ننسى أيضآ أنهم كلهم (إفراز هذا المجتمع) وتلاوينه.

والفئة الأخيرة هي مايهمنا معرفتها وحوارها والإنشداد إليها. هذه الفئة وعلى قلتها – وأقل داخل التقييد الحزبي، وأكثر في الإستقلالية – هي التي تعي وتطرح بصدق المشاكل العامة: تحرر، حرية، تعبير، مشاركة، علاج، إصلاح، بناء. من منطلق خالص محدد (بمصلحة الوطن والمواطن) بدون تمسح أو إستغلال أو متاجرة أو خداع أو إنجرار.

وهذه الفئة كما أكاد أعتقد، لا يهمها سلامة نظام مهما كان شكله أو نوعه أو طروحاته، بقدر همها الوطني، وبقدر إستيعابها الموضوعي لواقع (الصراع) وإنعكاساته على الوطن والمواطن.

وهذه الفئة التي يجب أن ننحاز لها ونعينها في قيادة التغيير. والتغيير بواسطة حكمتها ورؤاها ليس نابعآ من قوة تتمتع بها، وإنما نابعاً من تصورها وتحليلها وتوضيحاتها وإناراتها للواقع، ثم تساهم دفعآ ورقابة

"لقوى القوة" بعد إستيعابها وإيمانها بذلك، أن تحدث الإصلاح والتغيير، ثم .. مساهمتها بالمساعدة في إستمرار التغيير مهما كان بطيئاً، على الواقع، على الأرض.

المجتمع

وهو بيت القصيد في الفعل .. بعد الوعي والمعرفة وإمتلاك الإرادة، والأخلاق، في تعامله مع (الصراع)، في تعامله مع المثقفين الوطنيين، مع الأنظمة، مع القوى الإقليمية والدولية.

إن مجتمعاً:

ـ لا يزال يعيش في أغلبيته، التخلف بكل أشكاله الأخلاقية والمعرفية والعلمية والثقافية والسياسية، إبتداءً من "الفرد" – الأساس – داخل الأسرة، إلى الحي والمدينة والدولة؛

ـ مجتمعاً لا يزال يعيش على العواطف والإنسياق المجرد لها، الصحيح منها والخاطئ، ويقوم على القهر النسبي الكبير، وعلى "تغليب الأنا" مع ضرورتها على "نحن" مع أهميتها؛

ـ مجتمعاً يعيش الأحلام والتاريخ المجرد والإمكانيات الخادعة؛

ـ مجتمعاً يقوم على الكره والبغض وردود الأفعال والنكاياتوالعداوات؛

ـ مجتمعاً يسلم قياده (للحكومة) المطلوب منها كل شيئ حتى إدخاله الجنة؛

ـ مجتمعاً ينتظر فعل الآخر، وهو بإنتظار المنة والمكرمة والغذاء والأمان الثقافي والمجتمعي والسياسي والإقتصادي من الآخر حتى لو كان جاره؛

لهو مجتمع لا يستطيع (إفراز) سوى ما أفرزه حتى الآن. ولهو مجتمع غير مؤهل بالشروط التاريخية والمعرفية والواقعية لأن يبدأ الخروج من التخلف الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، لبدء مرحلة الإصلاح والتغيير. إن مجتمعاً (دجن) خلال قرون من حكم الإمبراطورية العثمانية، سيبقى إن لم يمتلك الوعي والإرادة والفعل، سيبقى مدجنآ لهذا النظام أو ذاك، لهذه القوة الدولية أم تلك.

وفي النتيجة .. فإننا وكما نحن عليه، وطالما أننا ننتظر (أن نعطى)، وننتظر معجزة من السماء، وننتظر أن يرأف بحالنا، وننظر للأمور بهذه الحوارات الجارية الآن مع أو ضد ... إنتقادات وشتائم وشمتان، تحميل زيد أو عمرو مسؤولية ما حدث، وإستثناء أنفسنا من المسؤولية والفعل، بل حتى من الوعي بالصراع، ونحصر تفكيرنا بصراعات جانبية ذاتية وننسى الأكبر والأهم، ونساهم في الهجوم أو الدفاع عن هذاوذاك، ونحصر المسألة برمتها بهذا العيب المجزأ أو ذاك الطموح الحلمي، فإن (الصراع على سوريا) سيبقى مستمراً بدون أي فعل إيجابي منا نحن الشعب.

وأخيراً .. فإن إستقامة توازن القوى المتصارعة، والمختل الآن، لا يكون إلا:

بقوى مجتمعية وطنية وقومية واعية وفاعلة في كل مناحي الحياة، متلاحمة مع طليعة نخبوية صادقة في نكرانها للذات متخلية عن إنحيازاتها الذاتية ومتنازلة عن كل أنواع أبراجها التي تتقوقع بها.

هذا التلاحم الذي يوفر خلال المسار التاريخي بفعالية إنسانية متصاعدة، قوة تستطيع أن تعزز تدريجيآ أنظمة وطنية واعية وملتزمة بمصالح الشعب الذي تمثله بإختياره الحر من كل تدليس أو خداع أو ضغوط . بحيث تستطيع هذه الأنظمة متلاحمة مع المجتمع وطليعته، من إحداث تحالفات تكتيكية وإستراتيجية تخدم وتجير لمصلحة الوطن والمواطن، متصدية بقوة وذكاء ووعي وحكمة، لمتغيرات السياسة الدولية، بأن تكون فاعلة ومؤثرة، لا متأثرة ومنسحقة وخاضعة لصراعات (لعبة الأمم).