المقصود بالمعارضة في هذا المقال الجماعات والاحزاب التي تعارض سياسة النظام القائم اي سياسة حزب البعث العربي الاشتراكي، والاحزاب المتحالفة معه والمنظمات الموالية له.

جدير ذكره ان بعض الاحزاب المؤتلفة في الجبهة الوطنية التقدمية كانت في الصف المعارض لسلطة وسياسة البعث في الستينات من القرن الماضي، لكنها تخلت عن موقع المعارضة، وانتقلت الى التعاون مع البعث، وارتضت عندما وقعت على ميثاق الجبهة، ان يكون دورها ثانويا في الحياة السياسية للبلاد، وان يقوم حزب البعث بقيادة الجبهة والدولة والمجتمع كما جاء في المادة الثامنة من الدستور.
ولسنا في معرض البحث في نقاط الالتقاء بين احزاب الجبهة وحزب البعث، او الظروف الموضوعية والذاتية التي قادتها الى الانصياع الكلي لارادة البعث. لكن منتقدي احزاب الجبهة يؤكدون انها فقدت مصداقيتها منذ زمن طويل، بعد ان عجزت عن الوقوف الى جانب مطالب المجتمع، بحرية التعبير والديمقراطية وحقوق الانسان والسعي لاجراء تغييرات سياسية واقتصادية جذرية.

لقد ساهمت احزاب الجبهة بشكل سلبي في تخدير احساس الجماهير باحقية مطالبها ودفعتها الى الرضوخ والسكينة والتخلي عن منظماتها، وعملت على اضعافها لصالح المنظمات المرتبطة بالبعث، خصوصاً الشباب والطلاب والنساء اضافة الى القوات المسلحة، بحجة المحافظة على "وحدة الصف الوطني وتفويت الفرصة على الاعداء والوقوف ضد الاجنبي".

ونجحت السلطة والاحزاب المرتبطة بها الى حد ما في اقناع الجماهير الشعبية بعدم جدوى معارضة النظام، وصعوبة الوقوف بوجه اجهزته، واقنعتها لفترة طويلة بان استمرار العمل بقانون الطوارئ هو امر طبيعي. ولم يعد مستغرباً تدخل الاجهزة الحزبية والامنية في شؤون المواطنين، ناهيك عن مؤسسات الدولة، وانتشرت نقاط الحراسة في كل بقعة وزاوية في البلاد. وتفننت اجهزة الأمن المتعددة باكتشاف اساليب قمعية جديدة وممارسة حروب نفسية لترهيب المجتمع، ومحاربة المعارضين من خلال قطع الارزاق تارة، او اختراق اجهزة الأمن للأحزاب والتظيمات واضعافها وبضمنها"احزاب الجبهة التقدمية". وحان الوقت للاحزاب المنضوية تحت راية الجبهة ان تستمع الى نبض الشعب وتستوعب معاناته، وان تميز نفسها ومواقفها عن النظام وتحالفاته.

معارضة ام معارضون؟

لكن هل هناك احزاب معارضة للنظام القائم؟ ان الاجابة على مثل هذا السؤال تبدو للوهلة الاولى محيرة، لأن احزاب المعارضة في الدول الديمقراطية تنشط علنا وداخل البرلمان او ضمن مؤسسات المجتمع المدني، ولها برامجها ورموزها وصحفها، اضافة الى وضوح اهدافها. اما في سوريا فان كلمة معارضة او معارض قد تؤدي بصاحبها الى السجن. وفي حالات كثيرة ربما يقود مجرد الاشتباه بكون الشخص المعني معارضاً، الى الاعتقال والتعذيب وقطع الارزاق وملاحقة افراد العائلة. لذا فان النظرة الى وضع المعارضة وتصنيفها يجب ان تأخذ بالاعتبار المكانة التي تحتلها سوريا في خانة الديمقراطية وهي مكانة متدنية بلاشك. وبالتالي يصعب على المعارضين التحرك بنفس الحرية التي يملكها من يعيشون في بلاد المهجر.

وبالرغم من سعي النظام واجهزته والموالين له الى تهميش المعارضة وتحجيمها وتصويرها كجماعات متفرقة، مرتبكة، وضعيفة، فان المعارضة موجودة واستطاعت ان تستقطب حولها نخبة من المثقفين والنشطاء، وان تعبر عن نفسها في مناسبات عدة.

ويرى متابعون للشأن السوري ان هناك استياء قديما من سيطرة العلويين على مقدرات البلاد وابعادهم للسنة من المراكز الحساسة خصوصاً في القوات المسلحة والاجهزة الأمنية، إلا لمن كان بعثياً ومقرباً من الدائرة الحاكمة، وتشكوا الاقليات الدينية والقومية من غير المسلمين والعرب من التمييز والاقصاء. ويزداد التذمر في المحافظات التي فقد تجارها (وغالبيتهم من المسلمين السنة) امتيازاتهم لصالح المنتمين منهم لحزب البعث الحاكم و للطائفة العلوية ولشريحة اخرى من الطفيلين والجهلة ووكلاء الأمن الذين سيطروا على المرافق التجارية الحيوية، وفرضوا الاتاوات على التجار وتدخلوا في شؤونهم الى حد الاسفاف.

ومن جانب آخر، تجدر الاشارة الى تخبط النظام وازدياد عزلته، واعتماده على اجهزة الأمن والقمع في التعامل مع خصومه، بدلا من الانفتاح على الشعب والحوار والاستماع الى الراي الاخر.
ويمكن ملاحظة الشرخ الذي اصاب قمة النظام و تعارض الاراء والمصالح داخل قيادة حزب السلطة والمؤسسة الحاكمة بأسرها، التي كان ابتعاد عبد الحليم خدام واحدا من ابرز معالمها.

ورغم الحملات الدعائية والوعود باجراء اصلاحات واسعة طابعها ليبرالي، واحيانا تبني السلطة لخطاب ديني لاستيعاب موجة "الصحوة الاسلامية"، إلا ان اتباع الحكومةلاساليب وسياسات اقتصادية فاشلة، واستخدامها للعنف ضد منتقديها، وانتشار الفساد المالي والاداري الى حدود بعيدة، زعزع الى حد كبير ثقة السوريين بصدق الخطاب العلماني وجديته. وادى الاثراء الفاحش لطبقة المسؤولين من جهة، وتدهور الوضع المعاشي وعدم قدرة الكثير من العوائل غير البعثية على اطعام اطفالها من جهة اخرى، ادى الى نزوعهم الجماعي الى دخول الجمعيات الخيرية الدينية ومعاهد ومدارس تحفيظ القران، وارتياد المساجد، اضافة الى مظاهر اخرى مثل تطويل اللحى، وارتداء الحجاب، كوسيلة لتحدي الخطاب الحزبي البعثي الاحادي، والبحث عن بديل آخر يمكن ان ينقذهم من وضعهم المعاشي المتردي.

وتميزت المناطق الكردية في العاصمة وفي الاجزاء الشمالية والشمالية الشرقية من البلاد الى نزوع شعبي لرفض سياسة النظام وصل الى حد العصيان المدني. وسعت الاجهزة الأمنية في اغلب الحالات الى جر المواطنين الاكراد السوريين، الى مواجهات دامية من خلال تحريضها لعشائر عربية ضد سكنة القامشلي والحسكة او بالتصدي للمظاهرات السلمية بقوة السلاح، لكي تستبق اي نزوع كردي للمطالبة بحقوق سياسية أو قومية ثقافية بعد النجاحات التي حققها اكراد العراق، وتكرر الأمر بالنسبة للاشوريين وهم مسيحيون مسالمون.

وهناك استياء عام من سياسات النظام، في السويداء ومناطق الدروز وحوران والقنيطرة. ورغم ايديولوجية البعث القومية الاستعلائية المبنية على التبعيث والتعريب فقد احتفظ غالبية ابناء القوميات الاخرى وبضمنهم الاكراد والارمن والتركمان والشركس وغيرهم بثقافتهم ولغتهم وتراثهم القومي. ولا يجد الكثير من هؤلاء المواطنين في رجالات النظام اي كفاءات تؤهلهم لتبوأ المراكز الحساسة في مؤسسات الدولة، ناهيك عن حصولهم على امتيازات لامتناهية، والتلاعب بمقدرات الناس، ونهب الممتلكات العامة والاثراء الفاحش، لإكثر من اربعين عاماً، باعتراف رئيس واعضاء مجلس الشعب.

طريق صعبة

ولابد من الاشارة ايضاً الى الجهود التي تبذل لاحياء منظمات المجتمع المدني وتفعيلها، يضاف الى ذلك وجود شخصيات ليبرالية مستقلة، ومثقفة ومعارضة، لها وزنها وتأثيرها على فئات واسعة داخل المدن السورية وخارج البلاد، خصوصاً ضمن التيارات القومية العربية المنشقة عن حزب البعث، واليسارية، والاسلامية، والاحزاب الكردية، وغيرها.

فالمعارضة اذاً موجودة لكنها مازالت تعمل على اساس ردود الافعال، وترديد خطاب مشابه في بعض جوانبه الى الخطاب البعثي العروبي، وتفتقر المعارضة الى المبادرة، خصوصاً في تنظيم نفسها، وتنسيق عملها، وايجاد سبل كفيلة باقناع الشعب السوري بعدالة مطالبها، وجديتها، ونزاهتها. ورغم الاحترام الذي يحظى به قادة المعارضة في اوساط معينة فهناك ضرورة لاكتساب ثقة واحترام فئات اوسع من الشعب واطيافه المختلفة من خلال تبني مطالبها ومخاطبتها بلغة واضحة و مقبولة، و تصعيد حملات المطالبة بالافراج عمن تبقى من السجناء السياسيين، والكشف عن مصير المختطفين وتعويضهم، واطلاق الحريات العامة، في مسعى لبناء دولة ديمقراطية عمادها القانون، يتمتع فيها الشعب بالعدالة والمساواة.

ويمكن ان تنحسر ظاهرة اللامبالاة ازاء ما يجري في البلاد، عند حدوث تطورات سياسية مفاجأة، وان تتمكن المعارضة من كسب اوساط شعبية واسعة، وتعزز صلاتها بالناس في فترات زمنية اقصر، من خلال طرح البديل الديمقراطي، للوصول الى اجراء التغيير المنشود، علما ان هناك قناعة لدى اوساط غير قليلة داخل سوريا وخارجها، بأن الاصلاحات الداخلية لا تحدث الا عبر الضغوط الخارجية.
ولايمكن اغفال المعارضة في الخارج، فهناك مئات الالاف من المهاجرين واللاجئين السوريين في بلدان المهجر، ممن اضطروا الى مغادرة البلاد لاسباب اقتصادية او سياسية، ولهؤلاء تجمعات ومنظمات وشخصيات تقوم بمجهود جيد للتعريف بالاوضاع الداخلية في سورية، وتعمل لكسب الرأي العام والرسمي الى جانب المطالب العادلة للشعب السوري في حرية التعبير وحقوق الانسان. وبغض النظر عن الطموحات الشخصية للبعض منهم، وهذا امر مفهوم ايضا، فان معارضة "الداخل" يمكن ان تجد اسلوبا ملائما للتواصل معهم، خاصة وان المعارضين في الخارج يعتبرون انفسهم جزء من معارضة الداخل.

وتزعم شخصيات معارضة في الخارج ان بعض اشكال المساعدة تقدمها منظمات غير حكومية تقتصر على الترويج لحقوق الانسان ونشر الديمقراطية وحماية حقوق المرأة، وغيرذلك مما يحيطه المتشككون بهالة من التخوين والعمالة. لكن نشاط المعارضة وقياداتها يجب على اي حال، ان يتميز بالشفافية والوضوح خصوصاً في آلية عملها ومصادر تمويلها، وبطريقة تجنب الاعضاء الوقوع تحت طائلة المسائلة والمعاقبة، ويجب ان تبقى مصلحة شعبهم وبلادهم في مقدمة اهتماماتهم.
ويبدو واضحاً ان المعارضة لم تستطع لحد الآن ان تطرح بديلاً مقنعاً للنظام القائم، لأن اغلب احزابها لاتدعوا الى اسقاطه وانما تحثه على تغيير سياسته. ومتوقع ان تتصاعد حدة خطابها مع استمرار النظام في عناده ورفضه الرضوخ للضغطين الداخلي والخارجي، وربما لجوءه الى عمليات جراحية تجميلية للتشوهات التي اصابت العملية السياسية برمتها، ما قد يزيدها تشوها ً. او استخدامه للعنف، وهنا قد يضطر العديد من النشطاء الى مغادرة البلاد، وبالتالي سعيهم مثل من سبقهم الى تأليب المجتمع الدولي على النظام، وطلب المساعدة السياسية والمعنوية وربما المادية.

ان احتدام الصراع بين السلطة والمعارضة بعد ان ترص الاخيرة صفوفها سيؤدي الى ظهور استقطابات وتحالفات جديدة، قد تسفر عن برنامج للتعاون في حدوده الدنيا، على ان يكون مبنياً على اسس الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. وربما ستسفر التطورات السياسية ايضاً عن اصطفاف بعض معارضي الأمس الى جانب النظام (وهذه حال الدنيا).

ليس هناك من يرغب في ان يقدم النظام على البطش بمعارضيه ليثبت صحة رأيه بان الحكم قمعي، لايرتجى منه اي خير، او غير ذلك من الصفات التي قد يطلقها بعض النشطاء على النظام، ولا احد يرتضي لنفسه ان يستنجد بالاجنبي لتغيير النظام، ولا احد يريد نشر الديمقراطية في بلاده من الخارج، لكن الأمر مرهون بالنظام وقيادته أولاً وبالمعارضة الوطنية ثانياً، لان الشعب السوري اذا فقد الصبر والامل، فقد يبحث عن بدائل اخرى، وللجميع في العراق عبرة.