انتهت الهدنة الخفية بين واشنطن ودمشق

لم تصمد الهدنة غير المعلنة بين واشنطن ودمشق . فها هي إدارة الرئيس جورج بوش تعود إلى التشدد حيال سورية من أعلى درجاتها وتستأنف حملاتها الإعلامية وضغوطهاالسياسية على نظام الرئيس بشار الأسد، رافعة في وجهه قائمة مطالب متراكمة مضيفة اليها طلباً جديداً : "فك التحالف مع ملالي طهران".

ملامح تشدد واشنطن برزت من خلال مؤشرات عدة أكثرها وضوحا التصنيف الاميركي لسورية الذي أعلنه الرئيس جورج بوش في خطابه السنوي عن "حال الاتحاد"، خطاب يحدد فيه الاستراتيجية العامة لبلاده للسنة المقبلة. وفيه وضع سورية في خانة إيران وكوريا الشمالية، الدولتين المصنفتين في واشنطن من ضمن ما يسمى "محور الشر". بذلك حل النظام السوري محل نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين . وفوق هذا التطور المنذر بالخطر حملة عنيفة شنتها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس على نظام الأسد، معبرة عن "اليأس" من حدوث اي تغيير في سياسته ومواقفه في العراق ولبنان وفلسطين.

يلفت في السياق تغير في خطاب ادارة بوش وكذلك في تعاملها مع المعارضة السورية ، سواء بإثارة الإدارة لموضوع المعتقلين السياسيين وتأييدها مبدأ التغيير الديمقراطي الشامل او من خلال رعايتها لمؤتمر عقد قبل ايام في واشنطن لمجموعات سورية تحت عنوان"توحيد المعارضة الوطنية السورية وتفعيل اعلان دمشق". ولعل ما عبر خير تعبير عن ارتفاع نسبة الانزعاج الأميركي حيال دمشق، الزيارة الحافلة شكلا ومضمونا التي أعدت لزعيم الأكثرية الحاكمة في لبنان سعد الحريري في واشنطن والتي بدا واضحاً أن من بين أهدافها توجيه رسالة الى سورية عبر نفي احتمالات عقد صفقة معها، فضلاً عن تكريس الالتزام بالذهاب في التحقيق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري الى خواتيمها ، وتذكير دمشق بضرورة التزامها تطبيق القرار ١٥٥٩.

ورافقت ذلك اعادة الحرارة الى خط التشاور المفتوح بين واشنطن وباريس حول الملف اللبناني - السوري على قاعدة ابقاء حال التعبئة الدولية في شأنه طوال الأشهر المقبلة و"توجيه" التحرك العربي لئلا يتحول فصل مسار التحقيق الدولي عن مسار العلاقات اللبنانية – السورية منفذا لدمشق كي تتهرب من التزاماتها ، خصوصاً أنها تنهج في الوقت الراهن سياسة هجومية في موازاة فوزحركة " حماس" في الانتخابات الفلسطينية العامة وتصاعد المواجهة الدولية مع إيران أحمدي نجادي لسعيها إلى امتلاك القنبلة النووية .

وتنسق الإدارتان الأميركية والفرنسية مواقفهما من ضمن خطوط رسمتاها بدقة : التشدد مع دمشق في ظل المتغيّرات الطارئة في الشرق الاوسط ، ضبط الوضع الأمني في لبنان، المحافظة على التماسك السياسي اللبناني تحت سقف التفاهم وإن في الحد الأدنى بين قوى الغالبية الحاكمة، استمرار التعامل مع "حزب الله" في اطار معقول، وتفهم الموقف اللبناني الذي يريد فترة سماح جديدة ويعتمد الحوار سبيلا للتوصل الى حل لسلاح المقاومة، والذي يعتبر ان تواصل الاستقرار اللبناني هو أهم من قرار مجلس الأمن رقم ١٥٥٩ في حال كان تطبيقه سيؤدي الى اضطرابات.

ولا شك أن تطورين أساسيين دفعا واشنطن الى التشدد مجددا حيال دمشق، أولهما زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إليها ، والتي سمحت لتيار المحافظين الجدد في أميركا بتثبيت نظريته حول ارتباط النظام السوري تقائياً بالنظام الإيراني، وكذلك تحوّل النظام السوري جزءا من الخطر الإيراني الذي يشكل خطراً مباشراً على المصالح الاميركية في المنطقة.

في هذا السياق تحدثت تقارير من العاصمة الأميركية عن أن تجدد التحالف الإيراني- السوري في عز المواجهة الدولية مع طهران دفع المناقشات المتلاحقة في قلب الادارة الاميركية في وجهة يغلب فيها خيار تغيير النظام السوري على خيار تغيير سلوكه، واعتبار ان دمشق تحولت منذ زيارة نجاد ورقة ايرانية من أوراق المواجهة، فأصبحت تالياً من الأهداف المحتملة في ساحة المواجهة مع إيران. بمعنى أن اي خطة اميركية ضد طهران تمر حكما بدمشق.

كذلك ساهم فوز حركة "حماس" في الانتخابات العامة الفلسطينية في تقوية حجة المحافظين في واشنطن ، المحرضين على دور دمشق في اللعبة الإقليمية، باعتبار أن "حماس" حليفة أساسية لنظام الأسد الذي يمكن أن يندفع في ظل هذا الفوز الى سياسة هجومية ومتشددة في لبنان والمنطقة. وزاد في تسليط الأضواء على العاصمة السورية ان اعلان الفوز صدر منها واحتفالات النصر جرت فيها ولم يتردد الأسد بشار الاسد في استقبال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل ، في حين وُضعت الفضائية السوريةفي تصرفه ونظم له مؤتمر صحافي احتفالي.

وتنبىء كل هذه التطورات الاقليمية والدولية بتعقيدات جديدة في لبنان الذي يقف أمام احتمالات مرة أحلاها الجمود والمراوحة، وأمام خشية حقيقية ازاء وطأة هذه التطورات وانعكاساتها: خشية أن يؤدي الحلف السوري- الايراني الى تعطيل الحوار حول "سلاح حزب الله"، وخشية ان يسفر فوز "حماس" عن تعطيل للحوار حول السلاح الفلسطيني ووأد الوساطة المصرية ( الموفد الرئاسي المصري اللواء عمر سليمان لم يأت إلى لبنان الذي ينتظره منذ أيام ) وخشية ان يؤدي التشدد الاميركي حيال نظامي الأسد والملالي الإيرانيين الى تعطيل الحوارات الداخلية اللبنانية ، ومعها امكانات حل التأزم في علاقة لبنان بسورية التي لا تزال تتحكم عبر تحالفها، مع إيران خصوصاً، في جزء من الأوراق المفصلية في البلد الصغير المجاور.