ربما يصح القول إن إطلاق سراح النائب رياض سيف المعتقل منذ أكثر من أربع سنوات قد أعطى دفعة قوية لأنصار الليبرالية في سوريا، فهو الوحيد من بين المفرج عنهم من معتقلي ربيع دمشق الذي عرف بميوله الليبرالية وأبان عبر منتداه الثقافي وحركة السلم الاجتماعي التي أعلن عن تشكيلها قبل سجنه دور الفكر الليبرالي كخيار لمعالجة أزمة المجتمع السوري المتفاقمة.

ثمة انتشار لافت في هذه الآونة للشعارات الديمقراطية والمفاهيم الليبرالية وإعلانات متنوعة لأحزاب وتجمعات مختلفة داخل سوريا وخارجها، تدعي تبنيها لأفكار ليبرالية مثل حزب النهضة الديمقراطي، والتجمع الديمقراطي الحر، وتحالف الوطنيين الأحرار، وحزب الحداثة والديمقراطية، وحزب الإصلاح السوري، والحزب الديمقراطي السوري، والحزب الديمقراطي الليبرالي.

كل هذه التشكيلات تقوم جنبا إلى جنب مع ارتفاع حرارة الحوارات وتواتر السجالات بين المثقفين حول ماهية الخيار الليبرالي، ما الذي يميزه عن خياري الديمقراطية والعلمانية، هل يصح اعتباره حلاً ناجعاً لما نحن فيه؟! ما حدود المساحة التي تتقاطع فيها مهام الطيف المعارض على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، مع الرؤية الليبرالية؟!.

الحقيقة أن ظهور تيارات ليبرالية على سطح الحراك السياسي والثقافي لم يأت بشكل فجائي أو يهطل من سماء صافية، بل له سياقاته وحيثياته ويمكن ربطه أساساً بعاملين، موضوعي وتاريخي.

موجة المد الليبرالي أخذت زخمها من المناخ السياسي العالمي الراهن الذي فتح على أهمية الديمقراطية والاقتصاد الحر مع النجاح الذي حققته النظم الليبرالية الغربية في النمو والتطور مقابل تأزم ما كان يسمى الدول الاشتراكية وانهيارها

العامل الموضوعي، يمثله الانتصار الذي حققه الفكر الليبرالي باعتباره فلسفة الحرية في التغيرات التي حصلت على الصعيد الدولي، وكان من نتيجتها انهيار الكثير من الأنظمة الشمولية، وتصدره تاليا كعامل موجه وربما محرض لإدارة الصراعات الاجتماعية الجارية من أجل تغيير الأنظمة الاستبدادية في البلدان المتخلفة.

إن موجة المد الليبرالي أخذت زخمها من المناخ السياسي العالمي الراهن الذي فتح على أهمية الديمقراطية والاقتصاد الحر مع النجاح الذي حققته النظم الليبرالية الغربية في النمو والتطور مقابل تأزم ما كان يسمى الدول الاشتراكية وانهيارها.

وجاءت هذه الموجة أشبه برفض صريح ورد على ثقافة الوصاية السائدة في حياتنا السياسية وتغييب دور البشر، بدليل تركيز دعاتها على أهمية احترام العقل والجهد الإنساني الذي بلغ من النضج قدرا يؤهله لأن يرعى مصالحه دون رعاية من أحد.

وقد استمدت الزخم والقوة أيضا من النتائج المرة والحصاد الهزيل لتجارب مجتمعاتنا العربية، وكأنها محاولة للتأكيد على مشروعية تجريب لون جديد من الحكم بعد أن وصلت الألوان والأيديولوجيات الأخرى من قومية وماركسية إلى طريق مسدودة وفشلت في تحقيق الأهداف المتوخاة.

فالشعارات والعقائد الكبيرة أنجبت نتائج هزيلة، فأين نحن من النهضة الموعودة وشعارات تحرير الأرض والوحدة العربية وخطط التنمية التي وعدت الناس بمجتمع العدالة والكرامة؟!.

أما العامل التاريخي فيشير إلى أن الفكر الليبرالي في سوريا ليس ظاهرة طارئة، فجذوره قديمة منذ فجر الاستقلال، لكنه غاب أو غيب طويلا مع سيادة الأيديولوجيات القومية والاشتراكية وخصوصاً بعد استيلاء حزب البعث على السلطة.

فقد عرفت الليبرالية خلال العقود الأربعة الأخيرة مرحلة قاحلة، وعانى أنصارها من المحاربة والاضطهاد، وقد أفضت التأميمات الواسعة عام 1965 وقرارات الإصلاح الزراعي أعوام 1963 و1964، وإقحام الدولة إلى حد كاسح في الحياة الاقتصادية، إلى تجفيف تربتها الاجتماعية.

لقد شهدت البلاد بعد الاستقلال وقبل استلام حزب البعث للسلطة حضورا لافتا للأفكار الليبرالية ربطا مع تلك المرحلة الخاصة من انطلاق التطور الرأسمالي المستقل نسبيا، انعكس سياسيا في تيارين كبيرين عرفا باسم حزب الشعب والحزب الوطني.

ضم الأول رموز الرأسمالية الصناعية والتجارية في مدن حلب وحمص وحماه، بينما التحق بالثاني معظم الشخصيات البرجوازية الدمشقية ورجال الأعمال، ناهيك عن أن تلك المناخات شهدت ظهور شخصيات ليبرالية مستقلة ومتميزة أمثال هاشم الأتاسي وفارس الخوري وخالد العظم وغيرهم.

وهذا ما يشجع البعض على القول إن الحضور الراهن للفكر الليبرالي ليس غيمة في سماء صافية بل يصح اعتباره الوريث الطبيعي للظواهر الليبرالية القديمة.

عرف مطلع الثمانينيات ومع احتدام الصراع بين السلطة والأخوان المسلمين عودة سياسية خجولة بتبني التجمع الوطني الديمقراطي أولوية الديمقراطية وأكدت ذلك في السنوات الأخيرة جماعات ليبرالية وفعاليات متنوعة مثل لجان إحياء المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان.

وإذا كانت الليبرالية قد نهضت تاريخيا من حقل الاقتصاد دفاعا عن الحرية الفردية وحرية النشاط الاقتصادي للبشر، ودعت إلى فكرة السوق الحرة والحد من تدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية وإلى احترام التنوع والفردية وحرية الاختيار وسميت مجازا الليبرالية الاقتصادية، فإنها وفي سياق تطورها التاريخي الملموس وربطا بتقدم حراك الطبقات المظلومة ودفاعها عن حقوقها سرعان ما أنتجت نظاما سياسيا أطلق عليه البعض تعبير الليبرالية السياسية أو دولة القانون وتميز بفصل الدين عن الدولة واحترام الحريات والتعددية وتداول السلطة وحقوق الإنسان.

وبات المفهوم الليبرالي الراهن والدارج يحمل كلا المعنيين الاقتصادي والسياسي على السواء ويجمع تاليا بين الدعوة للاقتصاد الحر والانتصار لقيم الديمقراطية والتعددية.

إن دمج الديمقراطية بصفتها عقيدة سياسية، بحرية الاقتصاد والسوق بصفتها عقيدة اقتصادية، وضع بين يدي الرأسمالية نوعا من الفلسفة الشاملة، لعب العديد من الفلاسفة كجان لوك وإيمانويل كانط وغيرهم، أدوارا في بلورتها وإنضاجها لتغدو أشبه بفلسفة سياسية تنادي بالحداثة والحرية والسلام والتنوير.

وأخيرا خضعت هذه الفلسفة لتطويرات مهمة مع تطور البرجوازية وسيطرة الشركات العملاقة فوق القومية على الحياة الاقتصادية، وخاصة لجهة إعادة تكييفها مع المطامع المستجدة لقوى الرأسمالية التي صارت تعرف باسم الليبرالية الجديدة.

واللافت أن هذه الرؤية ليست مكتملة أو ناضجة بما فيه الكفاية عند معظم التيارات الليبرالية التي تشكلت حديثا في سوريا، ومن قراءة أولية لأطروحاتها وبرامجها المعلنة يمكن أن نكتشف أن ذخيرتها الفكرية الليبرالية لا تزال بدائية وتفترق بعد اتفاقها على اعتناق المبدأ الليبرالي في الكثير من الخصائص والصفات، خاصة طبيعة الأهداف المتوخاة وأسباب التشكل وملامحه، ولعل من أهمها:

الفئات الاجتماعية التي تتنافس في حمل لواء الليبرالية في سوريا تنتمي في غالبيتها إلى قوى الرأسمالية، وإن لم تصل بعد إلى سوية طبقة متبلورة

أولا: لا يجمع هذه التيارات دافع مشترك من تبني الرؤية الليبرالية، ولا يزال الغموض يكتنف برامج غالبيتها، وأحيانا الاجتزاء وعدم الدقة، فمنها مثلا من ركز على الوجه الاقتصادي للفكر الليبرالي داعيا إلى إزالة كل الحواجز القانونية والإدارية التي تعرقل الاستثمار.

وأضفى هذا التيار على خطابه مطالب تبدو في التنفيذ شبه مستحيلة، كالنكوص نحو المرحلة العتيقة والبدائية من تطور البلاد الرأسمالي بالدعوة إلى الخصخصة وحتى الرجوع عن قرارات التأميم والإصلاح الزراعي وإعادة الملكيات الصناعية والزراعية لأصحابها، ربما كرد فعل متطرف على ما أوصلنا إليه احتكار الدولة للاقتصاد طيلة عقود.

ومنها ما غلب على مشروعه الجانب السياسي، كرد فعل طبيعي ومفسر على تاريخ طويل من السيطرة الشمولية وتغييب الحريات، وبدت أفكاره غنية بالمهام الديمقراطية واحترام التعددية السياسية وآليات الانتخاب وعبارات التقدير لإرادة الإنسان والثقة بدوره وفاعليته في مواجهة التحديات التي تعترض البلاد.

وبين هذا وذاك ثمة مساحة رمادية احتلتها مجموعات من دعاة الحرية صنفت نفسها تحت عنوان "الليبرالية الثقافية" حيث قصدت أن يقتصر نشاطها على ما هو ثقافي وفكري كإشاعة أفكار المواطنة ومفاهيم احترام الحريات الفردية والحقوقية.

ثانيا: يمكن اعتبار أحد أهم مثالب الفكر الليبرالي في سوريا أنه إيماني يرتبط إلى حد كبير بالجاذبية التي أرستها تجارب ليبرالية ناجحة، مثله مثل الفكر الاشتراكي الذي كانت دوافعه فيما مضى إيمانية أيضا تأثرا بتجاربه الناجحة.

وبمعنى آخر لا يزال الفكر الليبرالي عموما فكرا نخبويا وضعيف الاستناد إلى أساس موضوعي في البنية التحتية، طالما لم يحظ بقوى اجتماعية لها مصلحة حقيقية في اعتناقه، ولها طموحات اقتصادية في تحرير سوقها وبناء دولة الديمقراطية وإنجاز مشروعها الاقتصادي والسياسي الخاص.

لكن اللافت اليوم أن الفئات الاجتماعية التي تتنافس في حمل لواء الليبرالية في سوريا تنتمي في غالبيتها إلى قوى الرأسمالية، وإن لم تصل بعد إلى سوية طبقة متبلورة.

فثمة جماعات وأفراد، بعضهم جاء ليعبر عضويا عن مصالح البرجوازية العتيقة، هذه المرة بالأصالة عن نفسها بعد أن غاب ممثلوها الحقيقيون لعقود من السنين عن لعب دور سياسي مباشر وارتضوا الدفاع عن مصالحهم بالوكالة عبر التعاون مع أحزاب وشخصيات سياسية تحت يافطة المستقلين.

تدل على هذه الحقيقة مشاركة شخصيات من رجال الأعمال في تشكيل بعض التيارات الليبرالية الجديدة ترتبط أسماؤهم بأسر سورية عريقة في ميادين الصناعة والتجارة، بينما جاء بعضهم الآخر ليعبر عن مصالح ما يسمى البرجوازية الجديدة التي نشأت بفضل ما راكمته امتيازاتها السياسية من رؤوس أموال واغتنت من سيطرتها على مواقع المسؤولية ونهبها لمؤسسات الدولة والقطاع العام، فتعاظم وجودها وكبر طموحها للتحرر من إسار حزب البعث والتعبير عن ذاتها بما يتناسب مع ازدياد وزنها الاقتصادي.

وهذا يعني أنها تحتاج اليوم إلى ممثل سياسي جديد لمصالحها وقد باتت هذه المصالح تتعارض مع الأهداف والشعارات المعلنة للحزب الحاكم، لكن مع مراعاة أن لا تفضي دعايتها للفكر الليبرالي إلى الإخلال بالشروط والتوازنات التي أنجبتها ولا تزال إلى حد ما تستند إليها وتستمد منها الرعاية والحماية.

ثالثا: ثمة غموض لافت عند معظم هذه التيارات في تقديم إجابات واضحة حول علاقتها مع الليبرالية الجديدة التي تسود المجتمعات الرأسمالية المتطورة والتي أفرزت أشد الحكومات محافظة وتعنتا، وحول تصوراتها عن العلاقة المرجوة بين الاقتصاد الحر الذي تدعو إليه ونظام العولمة، وتحديدا مستلزمات وشروط اندماجها بالاقتصاد الكوني، وكيف تعالج علاقة الداخل والخارج أو حل التعارض بين الحاجة لتعميق الديمقراطية الذي يقتضي الحرية في العلاقة مع الخارج وبين مواجهة نزعات الهيمنة الخارجية.

أي بداية ستكون موفقة ديمقراطيا حين تطرح بعض التيارات الليبرالية أنها الممثل الشرعي للأفكار الديمقراطية، وتعتبر نفسها البلسم الوحيد لإخراج البلاد من أزماتها ومعالجة أمراضها المزمنة؟

كما أن ثمة التباسا حقيقيا في موقفها من الأوضاع الاجتماعية السورية في حال فك أسر الاقتصاد وتحرر الدولة من أعبائها وإخضاع الحاجات الحيوية للمواطنين السوريين لفوضى السوق وقانون العرض والطلب، بما في ذلك عدم وضوح رؤيتها في التعاطي مع مئات الآلاف من الفقراء والمعوزين الذين لا بد أن يلفظهم قطاع الدولة الخاسر ويصبحون نهبا للبطالة أو لأعمال دونية لا تليق بكرامة المواطن وإنسانيته.

وتاليا ثمة غموض حول ماهية الخطط المقترحة لمواجهة جموع المنتفعين المتعيشين من النظام الشمولي، وهم يشكلون كتلة مهمة من موظفي الدولة المتضخمة، لا عمل لهم ولا إنتاج بل استنزاف الاقتصاد الوطني فقط، بالإضافة إلى الذين لا بد أن يستبسلوا دفاعا عن مصالحهم ولتأكيد ولائهم للشمولية وتمجيد الاستبداد، ويدخلون في حلف مع من يعادون الديمقراطية من رموز الفساد والتسلط.

رابعا: إن ردود الأفعال الإيجابية، سياسيا وثقافيا، تجاه ما يطرح من أفكار ليبرالية والتفاعلات الجدية حولها وحول ما ظهر من تكوينات سياسية جديدة، بصفتها أحد الإفرازات الطبيعية لتكوينات المجتمع السوري وجناحا من أجنحة التغيير الديمقراطي وقواه، يبشر بتجاوز الأساليب البالية في النظر إلى الليبرالية بصفتها تياراً مارقا ومنبوذا، يقابل بالإدانة المسبقة وشتى الاتهامات بالعمالة.

لكن لا تزال تعترض التيار الليبرالي في سوريا وفرص تطوره، تحديات ومعوقات كثيرة، فثمة حالة قلق وتخوف من أن تفضي الحريات الفردية إلى تفكيك مجتمع أدمن دور الدولة التدخلي في كل تفاصيل الحياة.

وثمة أحاسيس وطنية وقومية وحال من التدين الشعبي لا تزال تعشش في المجتمع وتتعارض مع مسلمات الفكر الليبرالي.

وما يزيد الطين بلة أن بعض التيارات الليبرالية لا يزال يحمل الأمراض ذاتها التي يحملها الطيف المعارض، إما بسبب جرأته في استنساخ التجربة الليبرالية عن الغرب وتقديسها كما استنسخت التجارب الأخرى، وإما للتسرع في إعلان نفسه مخلصا وبديلا، مستسهلا إقصاء التيارات والقوى الأخرى، قومية أو دينية أو ماركسية، من عملية التغيير.

فأي بداية موفقة ديمقراطيا حين تطرح بعض التيارات الليبرالية نفسها على أنها الممثل الشرعي للأفكار الديمقراطية، وتعتبر نفسها البلسم الوحيد الذي طال انتظاره لإخراج البلاد من أزماتها ومعالجة أمراضها المزمنة؟!.