هذه المحاولة لا تزعم لنفسها دراسة متكاملة لأهمية الفكرة، إنما هي بعض الإيضاحات والتنبيهات التي يمكن أن تعتبر مدخلا، أو جزءا مساهما لدراسة أعم و أشمل لرمزية القائد وأهميته في حياتنا السورية، وعلى كل، فإن الفائدة الأساسية التي يمكن أن نجنيها من دراسة موضوع كهذا تتمثل في فهم ميكانيكية التفكير وآلياته عند السوريين، وبالتالي قدرتنا على تسويق (البرامج ) والرؤى والتفاهمات السياسية لدى النخبة (أحزبا ـ جماعات ....الخ) وجعلها مقدمات تأسيسية لدى السوريين من اجل التغيير الديمقراطي والدفاع عن هذا الخيار، وبالتالي يكون دفاعا عن الذات على اختلاف مكوناتها (الاثنية و الدينية و الطائفية) وتعبيراتها السياسية.

منذ الاستقلال لم يحض السوريون بفرصة التطور المدني و إنشاء المؤسسات التي تقودهم وتنقلهم من نظام علاقات المجتمعات البدوية والأهلية والعشائرية والطائفية التي كانت تحكم اغلب حياة السوريين ‏(‏على حد سواء سكان المدن والريف) وتستغني أو تخفف من طغيان الفرد وتجعل من الفرد جزء من الفريق الذي يقود المؤسسة التي تقود المجتمع.

المسألة الأهم بالنسبة لهذه المحاولة هي نمط القيادة أي السلطة التي تفرض رؤيتها على تابعيها فالقوة هي على الأغلب في يد زعيم القبيلة أو الطائفة أو الحي وهو رجل ذو سمات معينة فهو يتسم بالشجاعة والكرم والقوة واهم مافي الأمر هو الأصل النبيل، في ظل هذه البيئة، ظل نظام علاقات ماقبل الدولة الذي كان متحكما ويمتد نفوذه في كل سورية وقبل الاستقلال وبعده بسنوات برزت قيادات محلية وحزبية من نوع جديد تمتاز بالصفات السابقة التي ذكرتها آنفا بصفة جديدة، تسلحها بالايدولوجيا / العقيدة (ماركسية أودينية أوقومية وأيضا لليبرالية كان لها قائدها "خالد العظم") ومسقطة من حسابها الأصل النبيل أو الإدعاء بالانتساب إلى نسب غامض ونبيل لايمكن تأكيده أونفيه.

تلك الصفات التي تكرست لدى أولئك القادة، لم تسمح لهم عقائدهم الشمولية بالانتقال من حيز الجماعة إلى حيز المجموع وهذه القيادات التي طرحت نفسها بدائل عن المؤسسات التي بدأت تطورها حكومات مابعد الاستقلال أوالتي باشرت بتكوينها من إيمانها بدور المؤسسات في قيادة المجتمع والدولة باتجاه آفاق جديدة من التطور والتقدم.

تلك القيادات كانت تشكل عائقا في وجه تطور المؤسسات والتطور المدني، وهذا أدى بدوره إلى تسلط القادة المحليين الذين ساهموا بفاعلية بتسليم سورية ووضعها تحت وصاية الاستبداد منذ خمسة عقود، وحتى الممانعات التي حاولت أن تقاوم ذلك باءت بالفشل لافتقارها للبرنامج وللمؤسسة القادرة على تسويقه، وللقائد الذي يتصف بالمصداقية لدى غالبية السوريين، لأنهم ينحدرون من حقبة الجماعة / الحزب وغير منحازين للمجموع مما أعطى كل الفرص للقائد الحاكم على سحقهم وتأميم الدولة والمجتمع وشخصنتها باسمه، الذي أضفى عليه إعلامه هالات القادة المحليين والتاريخيين، وأصبح وحيد عصره وفريده، يجمع بين يديه وفي عقله كل مكونات المؤسسات التي كانت مكونة وعاملة، والتي لم تتكون بعد، وكل العلوم، (مثقف موسوعي، وسياسي بارع، واقتصادي مبدع، وقائد عسكري يعرف كيف يحول الهزائم إلى انتصارات!). وبإختصاركثف السلطة وقوّتها في يده؛ تساعده في ذلك عدة مؤسسات أمنية تدير الشؤون اليومية فيه، وتتلقى أوامرها بشكل مباشر منه، مما جعل من سورية مجرد مزرعة، ومواطنوها رعايا القائد، تتناهبها رغبات وأهواء ومتطلبات هذا القائد، الذي كانت عقيدته أنا ولا أحد، ومن ليس معي فهو ضدي ويجب أن يزاح من الطريق (طريق القائد).

هذا النوع من القيادة وإدارة السياسة والمجتمع جعلت من سورية مجرد ثنائية (سلطان/ رعية ) حيث تم إزاحة كل القيادات المحلية، ومن لم يزح فهو مجرد تابع ينتظر على باب السلطان/القائد من اجل عطاياه ورضاه.

وفجأة يموت السلطان/ القائد الأوحد الذي اتبع سياسة إفراغ سورية من وجود قائد محتمل، ولا احد مؤهل يحل محله، ومع هذا استطاعت بطانة (القائد) أن تتفق على أن تبقى بطانة (لقائد جديد) تعيّنه هي، وكان ماحدث فعليا في انتقال القيادة من السلطان إلى الخلف الذي هو اقل حنكة وقوة من سلفه، مما أعطى الفرصة للسوريين الذين يقطنون في الخندق الآخر، (المواجه لخندق السلطة)، وأقصد بذلك المعارضة المنظمة على اختلاف أطيافها ومشاربها، لأن تفرز وتعوّم قادتها التاريخيين والجدد، لكن هذا الفرز بقي محكوما بعوامل ما قبل وطنية (ايضا) ترجع إلى عهد الاستقلال أو ما بعده بقليل، وكأن العقود الخمسة الماضية لم تمر على سورية، وان هناك أجيال جديدة تعيش حالة قطع سياسي واجتماعي مع تاريخ هذه القوى لذلك - أعتقد - باءت بالفشل كل محاولة من هذا النوع . وهذا يطرح السؤال: هل أخفق السوريون في إيجاد قائد يتفقون عليه ليقود صراعهم مع السلطة من اجل بناء عقد سوري جديد ؟

لا اعتقد انهم أخفقوا لكن ضيق أفق الفعاليات السياسية، والنخب، وعدم قدرتها على دراسة سلوك السلطة في خلق بدائلها، ولأنها محكومة بحزبيتها وعقائديتها، مع العلم، بان الفرصة الآن متاحة وبإمكانات اكبر مما مضى على إتفاق المعارضة بغالبية أطيافها على تعويم قائد، لها تمنحه سلطات معنوية ورمزية على الأقل في التحدث باسمها كناطق وحيد، واعتقد بأن الساحة السورية فيها رجالات كثر يتسمون بالمصداقية والكاريزما التي يحتاجها القائد كميزة شخصية، ولا نحتاج إلى جهد كبير لتعويم هذا القائد المحتمل إذا كانت النية جادة في تفعيل إعلان دمشق.