نظرة باريس الى الوضع في لبنان في هذه المرحلة تثير لديها قلقاً لا يقل عما يساور اللبنانيين انفسهم، فالفرنسيون المتابعون لشؤون المنطقة في الوسط الديبلوماسي يبدون ايضاً قلقاً كبيراً على مستويين: تطور الوضع السياسي الداخلي اذ لا يغفلون المصاعب والعثرات على هذا الصعيد وهم واعون في الوقت نفسه لتفاعل هذا الوضع مع ما يحصل في الدول المجاورة. اذ ان ما يحصل في فلسطين يؤثر في شكل كبير على لبنان وكذلك ما يحصل في اسرائيل وفي سوريا والعراق وايران اضافة الى ما يمكن ان يحصل على جبهة "الارهاب السلفي". لكن فرنسا تستمر في تأكيد سياستها حيال لبنان من خلال ثلاثة عناصر: ان يكون لبنان سيداً حراً مستقلاً وقادراً على ممارسة ديموقراطيته ضمن الاطر الدستورية، وان يستمر التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بشفافية كاملة، وان تتجاوب سوريا كما كل الدول مع لجنة التحقيق الدولية التي تصر فرنسا على ان القيمين عليها يعملون باستقلال تام.

ومن ضمن هذه العناوين، تتدرج مجموعة امور:

بالنسبة الى لبنان اولاً، هناك مساران: احدهما المسار القضائي عبر لجنة التحقيق الذي تود فرنسا ان يصل الى النهاية ويكشف الحقيقة في اغتيال الحريري، وهذا الموقف ليس مبنياً على العلاقة الشخصية الوثيقة التي كانت تربط الحريري بالرئيس الفرنسي جاك شيراك، رغم الاعتقاد السائد بان هذه العلاقة كانت الحافز الرئيسي لفرنسا للعمل على اصدار القرار 1559. وهو تفسير يجد اصداءه في كواليس الديبلوماسية الفرنسية كما يجد تفسيرات ومخارج له مبنية ايضاً على واقع ان لشيراك دوراً بارزاً وفق الدستور الفرنسي في قيادة السياسة الخارجية الفرنسية وله علاقات وثيقة شخصية مع غالبية القادة العرب منذ اكثر من ثلاثين عاماً، وهذا البعد الشخصي لشيراك مهم جداً اذ ان الديبلوماسية تمر ايضاً عبر العلاقات الشخصية التي تدعم بدورها العلاقات السياسية كما تمر عبر المبادئ المبنية على علاقات تقليدية تاريخية لفرنسا مع لبنان، وهذا يقع ضمن هذا الاطار في العلاقات السورية اللبنانية في ظل سياسة فرنسية ترمي الى تأكيد سيادة لبنان واستقلاله وقدرته على حل مشاكله الداخلية وتقرير مصيره، وهذه هي السياسة التي تؤكد الديبلوماسية الفرنسية انها تعتمدها ازاء لبنان في هذه المرحلة، رغم ان الالتزام الفرنسي على هذا الصعيد لا يتعارض مع ما تقوم به في مناطق اخرى حيث الالتزام نفسه في ما يتعلق بفلسطين والعراق والاهمية التي تعلق على استقلال الشعوب وقدرتها على اعادة بناء نفسها في اجواء ديموقراطية حرة. لكن الصعوبة تكمن في ان تكون فرنسا صديقة لدولتين تشهدان خلافات وتقع الصداقة مع كل منها في موقع التضارب على ما هو الموقف بالنسبة الى لبنان وسوريا.

واستكمالاً للمسار القضائي، تعتقد فرنسا ان من اغتال الحريري يجب ان يحاكم امام القانون وهي تطالب كما المجتمع الدولي بأن تنفذ القرارات الدولية من دون شروط. وان تتعاون سوريا مع اللجنة لكشف الحقيقة متسائلة باستغراب لماذا يهدد التجاوب مع التحقيق استقرار سوريا كما حذر الرئيس السوري بشار الاسد في خطبته الاخيرة؟

المسار الآخر للالتزام الفرنسي يتعلق بالقرار 1559، وتود فرنسا ان يطبق هذا القرار عبر الحوار بين حكومة الرئيس فؤاد السنيورة و"حزب الله" وكل القوى الاخرى من اجل بسط سيادة لبنان على كل اراضيه بما فيها الجنوب بمساعدة القوة الدولية مع اقرارها بأمرين: الاول ان هناك ازمة على هذا الصعيد لكن التقدم يمكن ان يستمر وان يضطلع موفد الامين العام للامم المتحدة تيري رود لارسن بدور مفيد في هذا الاطار من دون اغفال الحاجة الى تعاون سوريا في شكل كامل في هذا الملف. والامر الآخر هو ان لا مهلة زمنية لتنفيذ القرار 1559 انما هذا لا يمنع رؤية الامور على ما هي في الواقع وخصوصاً ما يتعلق بـ"حزب الله" الذي هو حركة سياسية واجتماعية نشأت في الجنوب اللبناني على خلفية غياب الدولة واستفادت في مرحلة ما من الدعم الوطني الذي تخطى الاطار الشيعي، لكن هذا لا يغفل ان الحزب او افراداً او مجموعات فيه متهمون بالقيام في وقت من الاوقات بأعمال تصنف ارهابية. ولذلك فإن الحزب هو ايضاً ميليشيا لاكثر من سبب. والذريعة التي تستخدم لاحتفاظ الحزب بسلاحه وهي ان هناك اراضي لبنانية محتلة في مزارع شبعا هي ذريعة سياسية وخصوصاً ان الامم المتحدة اكدت انهاء اسرائيل احتلالها للبنان. ومن هنا فإن القول ان الحزب هو حركة مقاومة عذر لا يستقيم ويتعيّن ايجاد حل لذلك وان يدرك كل من لبنان وسوريا واسرائيل المشكلة باعتبار ان هوية مزارع شبعا وتعريف الاعمال العسكرية لـ"حزب الله" يتحددان في هذه المسألة بالذات.

بالنسبة الى سوريا، ثمة حرص لدى الديبلوماسية الفرنسية على التأكيد ان ليس لفرنسا اي هدف ضد سوريا وليس في برنامج عملها تغيير الانظمة السياسية في الشرق الاوسط، والموقف الفرنسي معروف من العراق مثلاً. ومسألة النظام في سوريا تعتبرها الديبلوماسية الفرنسية مسألة داخلية لا تعنيها، بل يعنيها، على ما توضح مصادرها، التزام القانون الدولي، وهذا امر ضروري اذ لا يمكن سوريا او ايران الخروج على الشرعية الدولية. وما هو مهم بالنسبة الى فرنسا لا يتعلق بكون الالتزام الدولي مسألة فرنسية لبنانية او سورية فرنسية او اميركية فرنسية انما كون المجتمع الدولي هو من يطالب عبر مجلس الامن كما في آخر بيان رئاسي له في 23 كانون الثاني المنصرم حول القرار 1559، بحماية استقرار لبنان وسيادته. والاجماع في هذا الاطار يعبر عن وحدة المجتمع الدولي وتالياً ليست المسألة شخصية. فاحترام سيادة الدول يمر ايضاً بعدم التدخل في شؤونها الداخلية واحترام حقوق الشعوب وقرارات الشرعية الدولية.

وتحرص فرنسا على ابراز استمرار وجود علاقات ديبلوماسية لها مع سوريا وتالياً فهي لا تبحث في تغيير النظام بل في تغيير التصرف وان تعترف سوريا من خلال ذلك باستقلال لبنان وديموقراطيته وان تتعاون من دون شروط مع لجنة التحقيق الدولية، فهناك عدد من قرارات مجلس الامن يطلب من سوريا ان تقوم بعدد من الامور وهذا ما تنتظره فرنسا منها وهي لم تضع شروطاً خاصة بها بل هناك قرارات لمجلس الامن مع موافقة الدول النافذة في منطقة الشرق الاوسط. ولذلك ليس وارداً القيام بصفقة مع السوريين من اجل انهاء الازمة الراهنة. فلدى الفرنسيين فكرة واقعية عن وضعهم في المنطقة وعن تأثيرهم انما الاستقرار في ما يتعلق بسوريا أمر لا تتحكم به فرنسا، لكنها ترغب في ان ينظم لبنان وسوريا العلاقات بينهما على قاعدة المساواة والاحترام والتعاون.

ولفرنسا رؤية مشتركة مع الولايات المتحدة وتلاق في العمل مع بعض التمايز، فلباريس هدف هو سيادة لبنان واستقلاله في الدرجة الاولى في حين ان لواشنطن اولوية تتدرج في العراق فإسرائيل فلبنان، اذ ان احدى كبرى المشكلات السورية مع الولايات المتحدة هي استمرار عبور المقاتلين من اراضيها الى العراق. وتعتقد فرنسا ان شعوب المنطقة تستحق ان تعبر عن تطلعاتها وهو ما تفهمه بالديموقراطية وليس استقدام انظمة غربية الى الشرق الاوسط، وهو النموذج الذي رأته الديبلوماسية الفرنسية في فلسطين حين جرت انتخابات شفافة في رأيها ولو ادت الى وصول "حماس" الى السلطة، علماً ان تقدير الطابع الديموقراطي لهذه الانتخابات لا يمنع ان ثمة شروطاً اساسية تفرض نفسها من اجل متابعة عملية السلام، يتعين في ضوئها على "حماس" او الحكومة الفلسطينية الجديدة التي ستشكل بنبذ العنف والاعتراف باسرائيل والتزام الاتفاقات الدولية منذ اوسلو، وخصوصاً ان شيراك سهر على ما تؤكد مصادر الديبلوماسية الفرنسية على ان تلتزم اوروبا مساعدة الفلسطينيين والسلطة على المستويين الاقتصادي والامني انما الواقع يفترض متابعة ذلك في اطار السلام والسعي اليه. وفرنسا التي لا تقيم اتصالاً مع "حماس" التي لا تزال على قائمة التنظيمات الارهابية تنتظر تشكيل الحكومة وتستمر في الحوار مع السلطة الفلسطينية لاعتقادها بأنه يجب العودة الى "خريطة الطريق" واوسلو هو الاتفاق الوحيد الذي ادى الى تطور ايجابي في المنطقة وفق رأي هذه المصادر علماً ان اوروبا قدمت كل المساعدات حتى يصل هذا الاتفاق الى هدفه ويكون قابلاً للعيش.