بعد التوافق السياسي الواسع والتأييد المنقطع النظير الذي حققه إعلان دمشق وصلت المعارضة السورية إلي لحظة حرجة وضعتها تحت امتحان عملي شاقّ، ليس فقط أمام الشعب السوري المستاء والمحبط من الأوضاع المزرية التي وصلت إليها البلاد، بل أيضا أمام المجتمع الدولي والقوي المهيمنة التي تقف في حيرة من أمرها بين الخشية

من المضي في سياسة تصعيد الضغوط التي قد تؤدي إلي انهيار النظام السوري والدخول في حالة فوضي لا تحمد عقباها، وبين التروي ريثما تتبلور وتتضح ملامح البديل الجديد الذي يضمن الاستقرار دون أن يهدد مصالح الدول الكبري في المنطقة. فجوهر التحدي الذي تواجهه المعارضة السورية، المنضوية تحت مظلة إعلان دمشق بشكل خاص، يكمن في كيفية الانتقال من مرحلة إطلاق البيانات السياسية، وتوجيه المطالب إلي السلطة وتحديد المواقف منها، إلي مرحلة وضع البرامج العملية الحاسمة، والمضي قدما في تنفيذها وفق استراتيجيات فعالة وآليات محسوسة علي الأرض، تأخذ بعين الاعتبار العاملين الداخلي والخارجي في عملية التغيير.

وهكذا، فإن التحدي الذي يتوجب علي المعارضة أن تتصدي له في هذه المرحلة ذو شقين هامين، أولهما داخلي موجه إلي الشعب السوري الذي يحتاج في هذا الوقت إلي معارضة قوية متماسكة تثبت كفاءتها في قيادة الشارع واستثمار سخطه واستيائه بشكل فاعل، وثانيهما خارجي يطمئن المجتمع الدولي بأن هناك بديلا ناضجا وقادرا علي حفظ الاستقرار والسلم الأهلي.

علي ذلك، فإن مرحلة المناظرات الفكرية والشعارات النظرية قد انصرمت وولت، حيث أنها حسمت بـ إعلان دمشق ولم يعد هناك مجال للتردد والانتظار. فما هو الحد الأدني المطلوب من المعارضة السورية، في الداخل والخارج علي السواء، أن تحققه لكي تثبت جدارتها وتنجح في هذا الامتحان الصعب؟ وما هي الاستراتيجية العملية التي يمكن أن تضمن انتقالا آمنا من الاستبداد إلي الديمقراطية؟

بداية، مما لا شك فيه أن المعارضة لن تتمكن من الارتقاء بأدائها إلي مستوي التحديات ما لم تنجح في عقد المؤتمر الوطني، الذي طالما تنادت للتداعي إليه وتعثرت في تحقيقه. وينبغي أن يتحقق ذلك في أسرع وقت ممكن، فالوقت لا يخدم سوي أصحاب المصلحة في تكريس الوضع الفاسد. ولكن التحدي الأكبر يكمن فيما ستضعه في أجندتها وتطرحه علي بساط البحث، أولاً، وما ستخرج به من مؤتمرها هذا، ثانيا. إذ أن الخشية تبقي في أن يكون جل ما ستخرج به هو بيان سياسي يعيد صياغة إعلان دمشق ويكرر المطالب والمواقف والتنديدات التي سئم منها الشارع السوري حتي أنه فقد اهتمامه بالشأن العام لكثرة تكرارها.

ينبغي، إذا، أن يكون هناك هدف عملي وواضح من هذا المؤتمر، وأهم هدف ممكن لهذا المؤتمر أن يخرج به هو تشكيل جمعية وطنية تمثل كافة أطياف وشرائح الشعب السوري، من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات مستقلة، تنبثق عنها حكومة ظلّ بديلة، أو لجان وزارية (أو تحت أي مسمي آخر)، تكون مهمتها وضع برامج عملية لإدارة المرحلة الانتقالية بعد السقوط المرتقب للنظام الاستبدادي.

إن أهمية تشكيل الجمعية الوطنية تكمن في أنها ترسل رسالتين هامتين تحملان إجابات واضحة علي شقي التحدي الراهن، إحداهما لطمأنة الشعب السوري وبعث الأمل فيه بعد أن وصل إلي حالة من اليأس وفقدان الثقة بقدرة المعارضة علي تحمل المسؤولية في دفع عجلة التغيير قُدما، والأخري لاكتساب الهيبة السياسية التي تستحقها أمام الرأي العام العالمي، وأمام دول الجوار بشكل خاص، باعتبارها منبرا للتعبير الصادق عن رفض الشعب السوري لسائر أشكال الاستبداد والحكم المطلق. فإذا ما عجزت المعارضة عن تحقيق هذا الهدف في هذا الوقت بالذات، فما الذي يضمن للشعب وللمجتمع الدولي أنها ستنجح في ذلك بعد سقوط النظام، حيث قد تتعرض البلاد إلي فراغ أمني لا تحمد عقباه؟

وفيما يلي بعض النقاط والأهداف التي نقترح أن تأخذ الأولوية في جدول أعمال المؤتمر الوطني الذي نترقب انعقاده، كما وعدت أطراف عديدة، في المرحلة القادمة:

تشكيل جمعية وطنية سورية، تمثل كافة القوي والتيارات السياسية المنظمة والمستقلة، وتعتبر هذه الجمعية بمثابة برلمان أو مجلس نيابي مؤقت (لا يتمتع بصلاحيات تشريعية) يمهد لإقامة المؤسسات الديمقراطية الحرة في البلاد مستقبلا.

تقوم الجمعية بالتنسيق بين كافة القوي السياسية لوضع آلية تجمع تنظيمات المعارضة السورية لتجعل منها قوة مؤثرة يعتد بها من حيث مدي القدرة علي مواجهة النظام الاستبدادي المتسلط علي جميع مناحي الحياة في البلاد.

تنبثق عن الجمعية الوطنية حكومة ظلّ مهمتها وضع برنامج لتسيير شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية التي تتبع انهيار النظام الحاكم الذي يواجه أزماته المتراكمة التي وضعت مستقبل البلاد في ضبابية مظلمة.

تشكيل لجنة للعلاقات الخارجية تسعي إلي اكتساب الشرعية الدولية والإعتراف السياسي.

تشكيل لجنة دستورية لصياغة مشروع دستور جديد للبلاد، والإعداد لإجراء الاستفتاء العام والانتخابات الحرة والنزيهة.

تشكيل عدد من اللجان الفرعية، كلجنة قضائية للمحاسبة والمساءلة الوطنية، لجنة إعلامية لمخاطبة الداخل والخارج، لجنة اقتصادية، لجنة إدارية... وغيرها.

إن قيام الجمعية الوطنية السورية هو الحد الأدني الذي يرتقي بأداء المعارضة إلي مستوي التحديات الراهنة، فهو يضفي علي حركتها طابع الشمولية، مما يعني بالتالي اتساع القاعدة الشعبية العريضة التي يمكن أن تستمد منها صفة الممثل الشرعي لمختلف قطاعات الشعب، في شتي أنحاء البلاد، وعلي تنوع منطلقاتها واتجاهاتها السياسية والفكرية. إضافة إلي ذلك، فإن تمثيل كافة فصائل المعارضة السياسية السورية داخل الجمعية الوطنية سوف يوصد الباب أمام أية محاولات قد تستهدف المساس بجوهر قضية الديمقراطية أو المساومة علي مستقبل البلاد عن طريق استغلال مظاهر التشتت التي تعاني منه حركة المعارضة في الوقت الحاضر.

باختصار شديد، إن علي المعارضة أن تأخذ بحسبانها أن هذه المرحلة هي مرحلة البرامج العملية والخطوات الجادة والاستراتيجيات الفاعلة، فلا جدوي من مؤتمرات تخرج بتوافقات نظرية تكرر نفسها، أو تعيد صياغة الشعارات والبيانات التي أتقنتها جميع أحزاب المعارضة عبر السنوات الماضية.