مفهوم «المواطنة» ما يزال ضبابياً، وموضع نقاش واسع في العالم العربي. وأن يأتي الكنديون إلى سوريا لإحياء تظاهرة ثقافية، على مدار أسبوعين، تحمل اسم هذا المفهوم «الخلافي»، هو أمر لا بالبريء ولا بالسهل. ما حدث أثناء إحدى الأنشطة، وما دار من جدال، ربما يعكس، صعوبة مهمة الكنديين، وريبة شديدة من طرف السوريين، ويبين حقيقة الهوة الفاصلة بين ثقافتين وحضارتين.

المثقفون السوريون، منذ ما لا يقل عن خمس سنوات، وهم يتجادلون حول معنى «المواطنة»، ويحاولون أن يصلوا إلى توافق بين خصوصيتهم الوطنية والاستحقاقات الدولية. وقد ظهرت كتابات عديدة حول هذا الموضوع، وهي مدرجة ضمن المداولات الداعية للإصلاح الدستوري والسياسي. من هنا يمكن فهم سياق التظاهرة الثقافية الكندية التي تشهدها سوريا حالياً، وتدور تحت عنوان «المواطنة»، منذ 19 فبراير (شباط) الماضي وتستمر حتى 5 مارس (آذار) المقبل. وتتضمن برنامجاً غنياً بالنشاطات الثقافية والأكاديمية: محاضرات ومعارض فنية وأفلاما سينمائية. إذ ترى كندا أن عنوان «المواطنة» هو عنوان مهم، وأن لديها تجربة يمكن أن تتوجه بها إلى السوريين، وهم في خضم جدلهم الشائك. لكن المسألة ليست بهذه البساطة. والحوار الساخن الذي دار بين بروفيسور كندي جاء يلقي محاضرة، ونخبة من السوريين الحاضرين، تدل على أن المسافة ما تزال طويلة قبل ان يلتقي الطرفان. فماذا قال البروفيسور وكيف جوبه من النخبة السورية؟

معايير دولية على قياس من؟

كانت محاضرة البرفيسور الكندي ويل كيمليكا، أستاذ الفلسفة في جامعة كوين الكندية، عن التعددية الثقافية الليبرالية وفق النماذج الغربية والتوجهات العالمية. ومن منطلق أن «المواطنة» مفهوم بدأ يتعولم منذ أوائل التسعينات. رأى كيمليكا أن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية اليوم تحاول أن تماهي بين أفضل الممارسات والأبعاد القانونية في التعامل مع مسألة الأقليات، وأشار إلى الانتشار الدولي لخطاب التعددية، وان هناك لقاءات دولية لصانعي السياسة تناقش الأفكار المتعلقة بالتسامح والتعددية. ويرى البروفيسور أن ثمة معايير دولية يجب أن تتقيد بها جميع الدول، وهي معايير طورتها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، ولم يغفل أن لهذه المعايير آثاراً بعضها إيجابية وبعضها ينضوي على مخاطر! وحاول كيمليكا الإجابة عن سؤال: لماذا هذا الاهتمام اليوم بهذه الأمور؟ ورأى أنه بعد نهاية الحرب الباردة ظهر انبثاق كبير من الصراع القومي ضمن الدول مثل: القوقاز، ويوغسلافيا. وأن مثل هذه الصراعات لم تكن مؤثرة سلبياً فقط على بلدانها، بل إنها أثرت أيضاً على المجتمع الدولي، وأن هذا الأخير توصل إلى اعتقاد بأنه من أجل السلام الدولي لا بد أن يقوم بشيء لفرض ثقافة عالمية ومعايير دولية ملزمة للتعامل مع الأقليات. ويرى البروفيسور الكندي أن في المجتمعات الغربية ثلاثة أنواع من الأقليات:1 ـ الشعوب الأصلية مثل: الماوري، والهنود الحمر.. ـ الأقليات القومية، وتعتبر نفسها أمماً مستقلة، مثل: الكيبك في كندا، والاسكتلنديين والغال في بريطانيا، والباسك في إسبانيا، والبورتوريكيون في الولايات المتحدة. 3 ـ مجموعات المهاجرين. ويرى كيمليكا أن هجرة العمال لم تولد عنفا متواصلاً وليس لها تأثيرات عنفية متواترة، ولم تشكل خطراً على السلام الدولي، وهي لا تشكل أولوية، بل متروكة لقوانين الدول المضيفة لمعالجتها وفق مصالحها التي تتوافق مع شرعة حقوق الإنسان. ويؤكد البرفيسور الكندي أيضاًُ أن جميع الدول الغربية التي لديها شعوب أصلية وأقليات قومية، باتت اليوم دولاً متعددة القوميات، تعترف بوجود شعوب وأمم داخل الدولة، ويتم هذا الاعتراف بسلسلة من حقوق الأقليات التي تشمل الحكم الذاتي واستخدام لغة الأقلية كلغة رسمية. وأن هذه التجربة الغربية ناجحة وقابلة للتعميم. ويدعو البرفيسور كيمليكا الدول الأخرى أن تحذو حذو الغرب في ما يخص هذه المسائل، مع حقها في إيجاد معايير محلية للتعامل مع أقلياتها، ويرى أن الأمم المتحدة فشلت حتى الآن في إقناع المنظمات المحلية في قبول هذا التحدي. إذ يسود مناخ يصعب فيه مناقشة موضوع حقوق الأقليات، لا سيما في البلدان المستعمرة سابقاً، لأن هذه الدول واجهتها قضية الأقليات قبل ترسيخ الدولة وبناء المجتمع والاقتصاد، بينما الدول الغربية عاشت نوعاً من التعاقب أو التوالي في الديمقراطية والازدهار الاقتصادي.

نقاد الليبرالية والإرث الاستعماري

ولكن يرى نقاد هذا الخطاب الليبرالي الغربي، أن هذا الاهتمام بالقوميات في الدول الفقيرة والتي تعاني من مشاكل عديدة، هو نوع من الإرث الاستعماري الذي يريد أن يفرض قيما وثقافة الهيمنة على باقي العالم، وأن تاريخ الغرب هو تاريخ هيمنة الأغلبية، وأن الحكم الذاتي عنده هو نوع من حماية الأقليات الهشة. ورغم الاعتراضات، فإن الغرب والمنظمات الدولية، كالأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة العمل العالمية، لم تعد جميعها توافق على أن مسألة تعامل الدول مع أقلياتها هي قضية محلية، وليس فيها ما يهم المجتمع الدولي. حاولت هذه المنظمات وما تزال تحاول قوننة معايير الحد الأدنى لسلوك الدول، فيما يتعلق بأقلياتها ولإرساء آلية عمل لمراقبة التزام الحكومات بتلك المعايير، حتى إن البنك الدولي قد أعلن أن حقوق الشعوب الأصلية هي شرط مسبق لأية دولة تسعى للحصول على مساعدات وقروض.

ويرى البرفيسور كيمليكا أن الخطاب الكوني الجديد قائم على التعددية الثقافية، وأن تدويل العلاقات مع الآليات في الدول قد وصل حداً ما عاد بالإمكان الرجوع عنه، وهو اليوم موضع جدل على مستوى العالم، ويلاقي تأييداً منقطع النظير عند بعض الأطراف المحلية الفاعلة، ويواجه بالرفض الكامل من قبل بعض الأطراف الأخرى، وهو موضع مقاومة فعلية من أطراف ثالثة. ويعترف البرفيسور بأن النقاد غالباً ما يجادلون بأن خطاب التعددية الثقافية والمقاييس الدولية، إنما تعكس بشكل مميز الظروف أو الهموم الغربية، التي ليس لها علاقة أو حاجة بهموم الأمم الأخرى.

المثقفون السوريون والشعور بالريبة

ولكن كيف قوبلت آراء الدكتور كيمليكا في دمشق؟

كان من الواضح أن المحاضر يدرك حساسية الموضوع الذي يتحدث عنه في بلد مثل سوريا، أو حتى في أي بلد «شرق أوسطي»، وأن هذا الموضوع كان من المحرمات قبل حوالي عقد من الزمن، وانطلاقاً من هذا الإدراك حرص المحاضر على ألا يكون عنوان بحثه عن «الأقليات»، بل عن التعددية الثقافية، وحين تحدث عن الأقليات انطلق من النموذج الغربي وإمكانية تعميمه والاستفادة منه. ورغم دبلوماسيته فقد قوبل المحاضر بريبة من قبل بعض الحضور، لا سيما أنه قدم وجهة نظر غربية محض، ولم يراع الخلل القائم في النظام الدولي، ولا موضوع سيادة الدول أو خصوصياتها. ولما كان الحضور نخبوياً، من أساتذة جامعات إلى صحافيين وكتاب، دار حوار بينهم وبين المحاضر حول ازدواجية المعايير، والعلاقات الدولية، والأولويات عند الدول المستعمرة سابقاً. ومن بين المتكلمين الدكتور إحسان الهندي، أستاذ التاريخ في جامعة دمشق، الذي رأى أن هناك مشاكل قومية في الغرب لم تحل، وتساءل: أليس من الرياء أن يهتم المجتمع الدولي بقضايا القوميات في البلدان المستقرة، في الوقت الذي لا يزال فيه الاستعمار موجوداً؟!

ورأى كيمليكا أن هناك روابط قوية بين زوال الاستعمار وحل مسألة القوميات الأقلوية، وأنها في الدول ذات السيادة موجودة على مستوى واحد، وأن كثيراً من الحجج ضد الاستعمار، هي كذلك مؤيدة لحقوق الأقليات، كما أن المساواة بين كل الشعوب هي التي تنزع الشرعية عن الاستعمار. أما الشاعر نذير العظمة فقد رأى أن ازدواجية المعايير في المنظمات الدولية تقود إلى تنازلات، تعطى للدول القوية على حساب الدول الضعيفة، وان هذه المعايير لا تكترث بالمخاطر التي قد تتعرض لها الدول الضعيفة من جراء فرض مثل هذه المعايير التي تبرر التدخل في شؤون الدول والتهديد بتفتيت وحدتها، كما هو حاصل في السودان. ورأى البرفيسور كيمليكا أن رفض الحكم الذاتي هو الذي يؤدي إلى الانفصال في السودان، وأن السودان معرض للانفصال، ولو أنه عمد إلى حل مشكلة الجنوب قبل سنوات من احتدام المشكلة لوفر على نفسه هذا الخطر، وأن التفاوض في مناخ ديمقراطي واحترام متبادل قبل أن يصل الانفصاليون إلى مرحلة حمل السلاح هو الطريق الأسلم. وأشار أحد المتداخلين إلى أن التطور الاقتصادي هو الأهم في بلداننا، وأن ثمة خطراً غفل عنه المحاضر، سماه المتداخل: (خطر السلسلة)، إذ يؤدي تنازل ما إلى سلسلة من التنازلات قد تنتهي بتفتيت أراضي الدولة.

أسئلة بقيت تنتظر بلا إجابات

وقد اعترف المحاضر بهذا الخطر على الدول التي لم يكتمل بناء اقتصادها، وأشار إلى أن هذا لا يعاني منه الغرب، حيث أن التطور الاقتصادي هناك لم يعد مرتبطاً بالأرض بشكل أساسي. أما الدكتور غانم هنا أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع، فقد توجه إلى المحاضر، قائلاً: هل بإمكانكم أن تتصوروا بديلاً للاطروحات التي تقدمها المجموعة الدولية أو الأمم المتحدة، يحل مثل هذه الخلافات، فلا تكون آتية من فوق ومحملة بالتهديد والوعيد؟ وهل من الممكن أن تترك الأقليات نفسها لترى أين تكمن مصلحتها دون تدخل؟

وبالتأكيد لم يكن بمقدور المحاضر أن يقدم إجابات عن كل التساؤلات التي واجهته، وحسبه أنه قدم وجهة نظره العولمية في موضوع «الأقليات» و«التعددية الثقافية»، وخلق حواراً بين ثقافتين، بدا أن الهوة بينهما أوسع من أن تردم بين يوم وليلة.