أبدت وسائل الإعلام اهتماما محدودا بالحديث الذي ألقاه الرئيس بشار الأسد أمام مؤتمر الأحزاب العربية في الرابع من الشهر الجاري في دمشق. هذا مفهوم. فالإعلام يهتم بما هو مثير، أو بما يمكن أن يعلن ولادة أو موت سياسة أو علاقة أو مؤسسة أو. نظام. ولم يكن من ضمن المتوقع أن يدشّن حديث الرئيس السوري جديدا أو ينهي قديما. بل لعل معظم وسائل الإعلام افترضت أن الحديث سيكون استمرارا لسابقه الذي ألقي أمام مؤتمر المحامين العرب في الشهر الأول من العام. وكان يعتقد وقتها انه سيتضمن كلاما مهما على إصلاح الأوضاع الداخلية السوري. فلم يتضمن.

على أن للحديث أهمية بالغة لا يطالها الإعلام. فهو يتوّج تحوّل وعي الطرف السوري للتجاذب الحاد بينه وبين كل من أميركا وأوروبا إلى مجال الثقافة والهوية، بعد أن كان ميدان الوعي هذا هو السياسة طوال عهد الرئيس حافظ الأسد على الأقل. ولقد انتظمت كلمة الرئيس السوري حول محور أساسي: نحن وهُم. نحن معرّفون بوصفنا الأمة العربية أو المسلمين، وهم معرفون كغرب، ولا يتهيّب الخطاب اتهاما محتملا بالصدور عن نظرية المؤامرة، بل يتقبّله بتحدٍّ ويصرفه باستهانة.

وفي هذا التحول نحو الهوية يتلخص الفرق بين حديث 4 آذار (مارس) وخطاب ألقاه الرئيس في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ووُصِف وقتها بأنه خطاب تحدٍّ ومواجهة. العنصر الجديد ليس المواجهة بحد ذاتها، بل «تأصيل» المواجهة أو حفر خنادقها في الثقافة والهوية. ولذلك نصف الحديث الرئاسي هذا بأنه خطاب القطيعة، أو تجاوز نقطة الانعكاس في العلاقة بين دمشق وما سماه الحديث مرات عديدة بالغرب، دون تحديدات إضافية. ولا ريب أنه رغب أن يفهم حديثه في هذا المنحى حين تكلم عن «هوية متأرجحة ضائعة بين الغرب وبين الشرق»، معرضة للذوبان فوق ذلك، تسهم في إضعاف العرب أمام الغرب.

هل ينبئ انتظام الحديث الرئاسي حول محور الهوية بتيقن نظام الرئيس الأسد بأن استهداف نظامه قطعي، وأن «الغرب» تحول في العلاقة معه من السياسة إلى تنويعات الحرب ولو دون حرب؟ السؤال مشروع لأن الهوية لا تستنفر إلا في أوقات الحرب، ولأن سياسة الهوية هي الوجه الآخر لحلول الحرب محل السياسة في العالم الواقعي. نميل إلى الرد بالإيجاب على السؤال، ونرجح أن خطاب القطيعة يعكس قطيعة فعلية. ولعلنا نعثر هنا على أول أصول هذا التحول السوري نحو سياسة الهوية، أعني انقطاع حبل السياسة الواقعية، وما تحتمله من تسويات وحلول وسط وبراغماتية و»انخراط» الأطراف في عملية مشتركة. لا يبدو اليوم أن هناك أي شكل من الانخراط أو التفاعل بين الأطراف، وليس ثمة ما يشير إلى حلول وسط ومساومات حقيقية رغم أن مراقبين متنوعين ما انفكوا، منذ الصيف الماضي، يظنون أنهم رصدوا مؤشرات على «صفقة» سورية أميركية.

على أن المحرك الجوهري لسياسة الهوية ومفتاح فهمهـــا هـــو هياكل السلطة القائمة ونظم المصالـــح والمواقـــع الامتيازيـــة الراهنة. وهي هياكل ونظم ومواقع بدت معرضة، طــــوال العام الماضي، لما هو بين الاهتزاز والانهيار. وسياسة الهوية محافظة بطبيعتها، سياسيا واجتماعيا وثقافيـــا، ومضـــادة للانشقاق، وفارضة للتجانس والتماثل، ومحابية للقيادات، ما يجعل منها السياسة الأنسب لحماية الأوضاع القائمة وإدامتها، ومنحها صبغة وطنية. وتشاركها في هذا المفاهيم العضوانية للمجتمع جميعا، أي التي تردّه إلى أسرة أو «أهل»، وتجعل الرئيس، تاليا، أبا أو أخا أو كبير العائلة. وفي الأصل، برز المفهوم العضواني أو الطبيعي، وانكفأ المفهوم الصنعي أو المدني بالتناسب مع تحول السلطة إلى أصل الأصول والفاعل الوحيد في المجتمع. وبموازاة ذلك ارتدت عروبة الخمسينات والستينات إلى بعدها الإثني، واضمحلّ، بالمقابل، محتواها التحرري الاستقلالي. ونميل إلى الاعتقاد بأن ما جعل من العروبة سياسة هوية ليس صدورها أصلا عن تصور عضواني للرابطة العربية، بل العكس: إن سياسة الهوية، التي تجد مفتاح تفسيرها في بنى السلطة والثروة، هي التي ردت العروبة إلى تصور عضواني وطبيعي، أو بالأصح هي التي نمّت وغلّبت ما فيها من عناصر طبيعية على ما حازته من عناصر صنعية ومكتسبة ومدنية. بعبارة أخرى، تَلوّن تصوُّر العروبة بتحولات السياسة والسلطة، أكثر من العكس.

وإلى هياكل السلطة والعلاقة مع الغرب، يتمفصل الطور الراهن من سياسة الهوية، ذات المكون الإسلامي المتنامي، مع المآلات الراهنة لكل من الشعبوية والقومية المعادية للامبريالية، الموروثتين من ستينات القرن العشرين. فمع استنفاد السياسات الشعبوية التقليدية من إصلاح زراعي وتأميم ونضال ضد الامبرالية منذ قرابة أربعين عاما، تفككت الشعبوية إلى أنظمة مفرطة الواحدية ينحلّ الشعب فيها في قيادته، وإلى حركات عنفية عرّفت نفسها بالإسلام. أما القومية المناضلة فبقي منها هاجس الهوية مع إخفاق آمالها التحررية والتوحيدية. والقصد أن سياسة الهوية اليوم نقطة التقاء شروط راهنة واستعدادات ذاتية. ولا ريب أن انتشار تنويعات من سياسية الهوية في الغرب، إن باسم «صراع الحضارات»، أو مواجهة «الإسلام الجذري»، تشكل مناخا ملائما لانتشار هذا الصنف من السياسة الثقافية.

ولعل مفهوم «الوحدة الوطنية»، وقد كان أساسيا على الدوام في خطاب السلطات السورية، يقوم بدور حلقة وسيطة بين الشعبوية الثائرة، التي دالت في الستينات وزالت في السبعينات، وبين سياسة الهوية التي تمزج بطريقة غريبة على منطوق الفكر البعثي الأصلي ومقاصده بين الإسلام والعروبة. فالوحدة الوطنية تفهم بوصفها امّحاء للفوارق السياسية، المدنية والطوعية بين السكان، وليس زوالا (مستحيلا) للفوارق الطبيعية، الأهلية وغير الطوعية، بينهم. وبقدر ما إن العلاقة بين الروابط الأهلية هي علاقة إقصاء متبادل أو (محض تعايش، في أحسن الأحوال)، فإنه يناط بمفهوم الوحدة الوطنية هذا أن يغطي واقع التنافر والتباعد، الواقع الذي يوفر للسلطة حيز السياسة وأدواتها. إن سياسة «الوحدة الوطنية» تجري على ثلاثة مسارات متكاملة: نزع المدنية، تثبيت الأهلية، واحتكار السلطة. وتحتكر «الوحدة الوطنية» تشكيل الوجه الداخلي للوطنية، أما وجهها الخارجي فيتشكل من موقف متوجّس يجنح اليوم بثبات نحو العداء للغرب. وعبر نزع التعدد الداخلي المدني ونصب حواجز مطلقة حيال الخارج، تتشكل ما نسميها الوطنية الأهلية. وهذه نقيض الوطنية المدنية، وطنية رعايا لا مواطنين.

وعلى الصعيد الفكري كذلك جاءت سياسية الهوية بعد إعداد. فالمؤتمرات القومية، وفي العقد الأخير المؤتمرات القومية الإسلامية، لم تقل خلال ربع القرن الأخير شيئا يتعدّى توكيد هذا المزج الذي يصل بدوره درجة التماهي. لكن بينما تعاملت السلطة البعثية في العهد السابق مع هذا الأمر بروح عملية، دون أن تتحمس له، لكن كذلك دون أن تعاديه، فإنها اليوم تنضمّ إليه، وتحاول تصدّره. وربما تكون نظرية التبعية التي تجعل من الأمم التابعة طبقة دنيا تقاوم الطبقة الرأسمالية التي هي الغرب قد لعبت دور حلقة وسيطة لدى أصناف من الماركسيين السابقين في مسار التحول نحو سياسة الهوية أو في تسهيل أمره. هذا، والمرسى النهائي لكل سياسة هوية في المجال العربي هو الإسلام.

يبقى أن هذا تحول كبير، يسم ما قد نسميه القومية الجديدة، إن في صيغتها العراقية قبل سقوط نظام صدام وبعده، أو في صيغتها السورية الراهنة، أو كما نجدها لدى كتاب ومثقفين قوميين، مقيمين ومهاجرين. والعناصر المشتركة بين تنويعات القومية الجديدة هذه، عدا مماهاة العروبة والإسلام، عداءٌ للغرب معرّفاً كهوية لا كعلاقة (لا نجد كلاما عن الامبريالية أو الرأسمالية... أو نجده مصفى من دلالاته التاريخية والدنيوية والنسبية، ومردودا إلى حامل لقيم سلبية فحسب)، وراثة عداء القومية القديمة (وكل قومية) لليبرالية، موقف يتراوح بين السلبية والعدوانية من الأقليات، ودرجة من عبادة الدولة نتوقع لها أن تتنامى مع زيادة الضغط على الدول القائمة واحتداد التوترات الأهلية. وضمن القومية الجديدة تتشكل بعثية جديدة، تصبغ بألوانها الخاصة المشتركات المذكورة.

وبعد كل هذا، هل من مكان لعجب في أن تُدشّن سياسة الهوية، أي سياسة الوحدة، أمام مؤتمر للأحزاب، يفترض أنه احتفاء بالتعددية؟!