منذ نحو ما يزيد على عام, دعيت لزيارة المركز الاقتصادي السوري «زون نيوز», الكائن في منطقة تجارية تستمد خصوصيتها من وقوعها بين الأسواق الشعبية على مقربة من ساحة المرجة وأسواق الإلكترونيات في البحصة. منطقة تحتفظ بشواهد حية على تحولات مدينة, بما تنطوي عليه من تناقضات هوجاء وفاقعة, أبراج تجارية كالنباتات العملاقة المتوحشة, تعلق بأكتافها بقايا بيوت طينية تقاوم الزوال بمشروع بناء مؤجل, وخرائب تستظل بجدرانها المتداعية بسطات الفقراء, وعلى الأرصفة أطياف بشرية شديدة التنوع والاختلاف. نجتاز الشارع العريض الى مدخل البناء الضيق, حيث مقر المركز الاقتصادي, اسم يوحي بالحداثة, وبالاتساع أيضاً والرحابة, لكن تناقضات تحولات مدينتنا تسبقنا إليه, فنصدم بأبواب سوداء مصمتة, ونتسلق سلالم ملفقة, نحو غرف ضيقة, مكان يجاهد عبثاً ليظهر بغير ما هو عليه, ليبدو أقرب إلى قلعة مصغرة, تصلح لأي شيء إلا أن تكون مكاناً لانطلاق مشروع إعلامي متطور, لكن بما أن المكان بالسكان كما يقال, فقد توسعت آفاق المشروع نفسه, حين بدأ مدير المركز نضال معلوف وفريق العاملين بالحديث عن إطلاق موقع الكتروني يُعنى بأخبار سوريا؛ آمال كبيرة رائعة تصر على الانطلاق ضمن واقع له خصوصية تلك المنطقة من دمشق الواقعة في إسار تعايش القديم مع الجديد, لكن لا شيء يكتمل, فالمهدد بالزوال لا يزول, والحداثة الناهضة مشروع واعد ومزمن, طموحات كبيرة تنوء بمعوقات كثيرة, والنتيجة مكانك راوح. لذا وعلى الرغم من جدية المركز ونياته الطيبة وخطته الواضحة... لم نتفاءل.

انطلق موقع سيريا نيوز, وسرعان ما اتخذ مكانه إلى جانب الصحافة السورية الرسمية والخاصة, وذاع صيته ضمن الأوساط الصحفية كمؤسسة متكاملة تحتوي على كادر تحرير ومراسلين ميدانيين, يُجرون تحقيقات خاصة ويعيدون طبخ الأخبار, الى جانب رصد ما يكتب ويبث عن سوريا في الداخل والخارج. ونال خلال فترة وجيزة اعترافاً رسمياً غير مباشر مع موقعين آخرين, شام برس ونشرة كلنا شركاء, من خلال ردود المسؤولين على معلومات تنشر فيها, في وقت لا زالت الأوساط الرسمية تنظر فيه إلى الصحافة الالكترونية باستخفاف, وهو انجاز ملموس يحسب لتلك المواقع, على الأقل من خلال الأسبقية في تهيئة مكانة كهذه للصحافة الافتراضية السورية, التي بات يحسب لها الحساب.
الأسبوع الماضي تلقيت دعوة أخرى لزيارة «سيريا نيوز» لا المركز الاقتصادي, ولا زون نيوز, بهدف لقاء مع طلاب صحافة يُجري لهم المركز دورة مهنية تدريبية. بداية ظننت أن المركز أخذ على عاتقه محاولة سد الثغرة الكبيرة في مجال تأهيل الكوادر الإعلامية السورية, بالقيام بدورات تدريبية مأجورة للإعلاميين الشباب؛ أمر يدعو الى الاحتفاء, إذ ظهر من يفكر بمساعدة خريجي الإعلام الذين يغادرون الجامعة كما دخلوها, وكأن أربع سنوات دراسية لم تكن إلا تمضية للوقت, إن لم يكن لتهرؤ الكثير من المعلومات السابقة إن وجدت, فلا مهارات مهنية ولا ثقافة نظرية ولا لغة ثانية. أما اللغة الأولى فحدث ولا حرج عن تراجعها المخيف. كانت كلية الصحافة حين تخرجنا منها في منتصف التسعينيات سيئة, لكنها اليوم بالغة السوء, فحتى الحلم بممارسة مهنة شيقة بقدر ما هي شاقة, لم يعد يملكه خريج الإعلام, وحده الإحباط يرسم وجه التمرد أو الانصياع الفردي, لذا فمن دواعي الغبطة أن يمد أحد ما يده للإعلاميين الجدد, عبر دورات تأهيل مأجورة, كما هي الحال في كبريات المؤسسات الإعلامية الدولية.

إلا أن الدورات في «سيريا نيوز» ليست كذلك, بل ربما أفضل من هذا التوقع المتفائل, كونها مجانية ولمدة شهر تتيح للراغبين فرصة ممارسة المهنة, والتعرف الى تجارب الإعلاميين من الضيوف؛ فكرة لا شك بفائدتها في الكشف عن مواهب كامنة من خلال اختبارات التعلم. عدا عن كونها مؤشراً لبدء تعافي واقعنا الإعلامي, وهو ما نلمسه في المقر الجديد لـ«سيريا نيوز» في أحد أحياء دمشق الحديثة, حيث احتل طابقاً فسيحاً الى حد ما, لا أبواب سوداء له, وإنما ديكورات بسيطة من الزجاج الشفيف والخشب الحميم, تؤلف معاً مكاناً مريحاً للعمل الصحفي, كسائر المؤسسات الإعلامية الحديثة, والتي للأسف لا تزال كثير من مواصفاتها مفتقدة في بلدنا, مثلما نفتقد أجواء العمل المؤسساتي المشحونة بحماس شبابي خالص, والتي تحيل تجمع الإعلاميين في المطبخ حول فنجان القهوة إلى ندوة مفتوحة على أسئلة وحوارات ونكات, تضج بالحياة والحيوية؛ إنها حقاً حالة تشرح الصدر... أخيراً صار عندنا مؤسسة إعلامية مستقلة تنحت تقاليد خاصة بها, وباشرت بتأسيس بنيتها التحتية, أما الباقي وهو الأهم فما زال الطريق إليه طويلاً, فما تحقق من آمال فريق «سيريا نيوز» يحتاج الى المزيد, وهذا المزيد ليس بالهيّن ولا اللين, لكنه ليس بالمستحيل ولا العسير, إذا توافر الجد والمعرفة والوضوح, إذ لا بد للصحيفة الالكترونية لتغدو صحيفة حقيقية تنافس الورقية, أن تكون لها موادها الخاصة في المجالات كافة, لا أن تبقى معتمدة بشكل اساسي على إعادة نشر أو صيغة ما ينشر في الوسائل الإعلامية الأخرى, أي أن تكون مصدراً لا ناسخاً, وهذا هو التحدي الحقيقي الذي ينتظر الصحافة الالكترونية السورية في المرحلة الآتية على عجل. من اطلع على «سيريا نيوز» منذ عام, ويراها الآن سيتملكه تفاؤل تستحقه بلادنا الزاخرة بالإمكانات, وسيتمنى لو أن لدينا عشر مؤسسات إعلامية تساعد على خلق واقع إعلامي صلب, لأن مركزاً واحداً لا يكفي, كما أن عشرات المجلات المتشابهة تتداول الأقلام ذاتها فيما بينها لا تغير في بؤس إعلامنا شيئاً.

ومع ذلك نقول من اكتوى من غياب قانون للإعلام معاصر ومن صلاحيات متداخلة وقرارات جائرة, حين يلتقي بشباب يصرون رغم المثبطات على العمل في الإعلام, وربما ليس لنا سوى الاستعانة بالدعاء وتبخير كل صاحب مبادرة خيرة نيرة, وتحصينه بحجاب لدرء عين حاسد إذا حسد, وفاسد إذا فسد. بعدما لم يعد النقد ولا المطالبات تجدي. أي نعم؛ بخور عندما نفقد الرجاء بتبديد الخوف من غضب لا على البال ولا على الخاطر يجعل جهد سنين أثراً بعد عين, أو تسكين القلق من غموض سياسة إعلامية, تعلن إطلاق منطقة إعلامية حرة للسوريين؛ الرخصة فيها تمنح وفق قانون لم يولد بعد!!