ثمّة من يرى في نزول الطلاب للعام الثاني على التوالي لمواجهة المعتصمين أمام القصر العدلي في (الشام) أمرا طبيعيا، بل ديموقراطيا، فالطلاب أحرار في أن يعبّروا عن موقفهم الوطني من الأعداء والعملاء والخونة هذه المصطلحات أو الصفات التي أطلقها الطلاب الغيورون، حُدّثت وطُوّرت في السنوات الأخيرة وفق مقتضى الحال الأعداء الذين يطالبون بإلغاء قانون الطوارئ ورفع حالة الأحكام العرفية التي شكّلت أساسا للمواطَنة السورية على مدى أكثر من أربعة عقود. وثمة من يثني على النزول بوصفه خطوة نحو اعتياد الناس على الخروج، متناسيا أن يكون هذا النزول شكلا من أشكال الحضور الأمني، غافلا عن أن تكون جهة ما قد ذكّرت اتحاد الطلبة بوظيفته الأمنية، وأعلمته بالموعد المقرر للاعتصام وبمكانه وبكيفية التعامل مع القائمين به. أمّا السلاح الذي هو عصي تحمل صورا وأعلاما، فالطلبة، قادة المستقبل، باتوا يعرفون كيف يستخدمونه بمهارة أكبر، بعد تمرين أجروه العام الماضي، بتوجيه من الجهة عينها، وأمام عيون رجال الأمن، أو رجال حفظ النظام، الذين يبدو أن دورهم يتحدّد، في هكذا حالات، بحماية عصي الطلاب الحاملة للمقدس والحامية له من أجساد المعتصمين الصلبة.

أمر اعتدنا عليه في سوريا، منذ عقود، أن يُدفع إلى الميدان بعشرة آلاف (هاتف) مُوالٍ مقابل كل معارض محتمل، وأمر ألفناه، في عهد التحديث والتطوير، أن يُدفع بعدد مثله لمواجهة كل واحد ممن يجرؤون على المعارضة فثمّة من يجرؤ اليوم على المعارضة علنا في سوريا ولكن نسبتهم إلى الموالين علناً لا تتجاوز كثيراً نسبة واحد إلى عشرة آلاف، لكن الأرقام في سوريا أرقام خبيثة، ظاهرها شيء وما تخفيه شيء آخر! . وبالتحلي بقدر هائل من المرونة يمكن قبول الممارسة السورية التي ألِفناها على أنّها شكل من أشكال (حرّية التعبير)، السورية طبعا، ومع ذلك يبقى السؤال التالي قائما: هل فكّر مهندسو العنف في دمشق بمعنى استخدام بعض السوريين ضد بعضهم الآخر، وبالنتائج التي يمكن أن يُفضي إليها هكذا استخدام؟ أم أنّ النتائج التي يسهل على العاقل توقّعها هي بالذات ما يريده مهندسو النظام، بل توقّعها هو ما يريدونه من أجل أن يغدو ممكنا استثمارها في زمن يسبق حدوثها، أي استثمارها الآن؟! ومنه، فهل يكون هذا الاستخدام مختلفا، من حيث الجوهر، عن ذلك الاستخدام العنفي ضد سفارات الدول التي نشرت صحفها الرسوم المسيئة للرسول الكريم؟

يوم نزل الشباب أو أُنزل أو سُكت عن نزوله، لا فرق، ذلكَ النزولَ الناري ضد السفارات، أُريدَ للنزول أن يوصل ثلاث رسائل في مغلف واحد، للخارج والداخل معا: أولاها، الإيهام بوجود حرية للتعبير عن الرأي، في سوريا، على الرغم من أنّ أحدا لا يمكن إيهامه اليوم بذلك؛ وثانيتها، التهديد بعنف كامن في المجتمع السوري يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس، كما يقال، عنف ذي وجه إسلامي، لأميركا مصلحة في عدم إفلاته من عقاله، وبالتالي مصلحة في دعم النظام السوري القادر على ضبطه، ضبطا مدعّما بتجربة ثمانينيات القرن الماضي في حماه وغيرها، ناهيك بمصلحة (المواطنين) السوريين أنفسهم في فعل كل شيء يحول دون خروج مثل هذا العنف المدمّر إلى الحياة السورية. لكن هذا ال(كل شيء) يعني شيئا واحدا، من وجهة نظر النظام، هو الخضوع الكامل له، أي للنظام الحاكم، دون مطالبته بأي شيء أو مساءلته عن أي شيء؛ وأمّا ثالثتها، فلمن لا يعتبر في الداخل والخارج، استخدام العنف (الموالي) المكبوت لدى السوريين المحاصرة طاقاتهم ضد من يخطر بباله المس بأمن النظام. وإلى جانب هذه الرسائل تحقيق وظيفة تفريع شحنة من الاحتقان (وظيفة تنفيس).

وقد شكّل الغزو الأميركي للعراق صماما من الدرجة الممتازة، فرّغ الساحة السورية، لمصلحة الحُكم، من شحنة كبيرة كان يمكن أن تنفجر في غير مكان. ولكن من هو الذي يملك القدرة السحرية على التحكّم بالعنف؟ يخطر بالبال أنّه يمكن توجيه طاقة العنف الكامنة في المجتمع السوري إلى العدو التاريخي، إسرائيل، لكن إسرائيل مطْمئنة إلى أن حجرا واحدا لن يسقط في دُور مستوطنيها من جهة الجولان. أم أن ترك الجولان لمشيئة القدر، على مدى ثلاثة وثلاثين عاما، يعني شيئا آخر؟! ويخطر بالبال أنّه يمكن توجيه طاقة الشباب، العدوانية بحكم الشباب، نحو البناء، نحو الإبداع، لكنّ الواقع يشي بلعبة إضاعة للوقت يلعبها النظام مع مواطنيه، لعبة تهدف فقط إلى الاستمرار في السلطة أطول فترة ممكنة دون فعل شيء. فلا وجود لأي قطاع في سوريا في ظل الفساد والسطوة الأمنية يمكن أن يحقق أية قفزة تستوعب طاقات الشباب. وأمّا الحديث عن الإبداع فلا معنى له في ظل غياب الحرية. وهكذا، ألا يمكن أن تحلو لعبة العنف للشباب فتنقلب لعبة إضاعة الوقت الفارغة إلا من الشعارات على اللاعب، فيكتشف أنّه أضاع، مع وقت المواطنين والوطن، فرصة بقاء حقيقي حي، وليس بقاء شبيها ببقاء المومياءات؟
يمكن طرح أسئلة أخرى كثيرة حول لعبة نظامنا (الوطني) مع العنف ومع الوقت، لكن المسألة الأهم والأكثر إقلاقا تتعلق بالخشية من ركون المؤسسة الأمنية السورية، بما هي مؤسسة عنفية، تقوم على العنف وتمارسه وتخطط له وتدير المقادير التي تحقق مصلحتها منه، ركونها إلى ورقة العنف بوصفها (جوكرا) طالما أجادت استخدامه.

بيد أن العنف بمقدار ما تتسع دائرته تصعب إدارته أو التحكم به، وبمقدار ما يتكرر استخدامه تتصاعد وتائره ويكتسب خواص جديدة، إلى أن يبلغ درجة يُدير معها ذاته بآليات داخلية خاصّة.. وهنا، عند هذه النقطة بالذات، لا يكون لأحد مصلحة بالعنف إلا لأعداء سوريا. وهل هناك حاجة للإشارة إلى درس العراق الذي لا تتطلب قراءته كثيرا من الفطنة؟

وهنا لا بد من الخشية من أن يقوم مهندسو العنف في سوريا باستنتاجات خاطئة بناء على نجاحات سابقة في إدارتهم للعنف. ففي الوقت الذي يمكن فيه التحكّم، إلى درجة ما، بنوعية الطلاب النازلين وأعدادهم، الطلاب المقيدين بأحكام اتحاد الطلبة وحزب البعث الحاكم والمؤسسة الأمنية المهيمنة عليهما، فإن التحكّم بجرعة العنف وبردود الفعل عليه وبنتائج التربية على توجيه قبضات الطلاب إلى وجوه أساتذتهم قد تأخذ منحى آخر ودرجة أخرى لا تطاوع أيدي مهندسي العنف في دمشق.
من جانب آخر، فإن رعاية الحكم في سوريا لحاضنة من العنف، هي حاضنة العنف (الإسلامي) الموجّه الذي يمكن استخدامه في السياسة كما يعتقد مهندسوه، تنطوي على مغامرة كبيرة ومخاطرة بأمن سوريا كدولة وأمن مواطنيها، لمصلحة أحد آخر غير السوريين بالتأكيد. وإلا فما معنى أن تتم رعاية تيارات إسلامية تُجيّش آلاف الشباب؟ وما معنى أن تكون لها منتدياتها التي تأخذ اسم مسجد هنا ومسجد هناك، منتديات تشحن عشرات الآلاف بطاقة عنفية ضد أعداء الله الذين يمكن توسيع دائرتهم قدر ما تشاء؟ أم أنّ شرط التسبيح بحمد النظام يكفي اليوم للتحالف مع هذه التيارات؟ ثم، إلى متى ستبقى حاضنة العنف (الإسلامي) تدعو للنظام بالمنعة وطول البقاء؟

لا أعتقد أن أي سوري بحاجة إلى تعداد أسماء التيارات الناهضة وأسماء متزعميها، كما لا أعتقد بأن السوريين يغفلون عن خروج العنف المصطفى ضد عدو يُعرّف بعدائه للإسلام. وأما أعداء الإسلام فلا يقتصرون، كما تُبيّن تجربة العراق، على إسرائيل وأميركا، بل تتسع دائرتهم لتجعل كل عراقي عدوا من وجهة نظر عراقي آخر، أقول (عراقي) راجيا ألا يضطر أحد لاستبدال كلمة سوري بكلمة عراقي في وقت ما!
اليوم، يُنزل مهندسو العنف في دمشق طلابا بعثيين، ولكن من هو البعثي اليوم في سوريا؟ أليس هو ابن مذهبه وطائفته وعشيرته، قبل أن يكون ابنا لحزبه، الحزب الذي أُرِيدَ له أن يكون سجنا كبيرا، نزلاؤه أكبر عدد ممكن من السوريين؟ أليس البعثي ابنا للتيارات الإسلامية المتحالفة مع النظام اليوم، وقد لا تكون كذلك غدا؟ ومنه، أفلا يحمل العنف الأمني البعثي اليوم طابعا آخر قد يغلب غدا؟ أم أن مهندسي العنف في دمشق يعتقدون بإمكانية تكرار تجربة ثمانينيات القرن الماضي، للقضاء على السياسة في سوريا لعشرين سنة أخرى؟! من يدري فقد نجد أنفسنا غدا أمام كتائب بعثية مسلّحة منتقاة، كما حدث آنذاك، وكتائب ذات أسماء أخرى تودي بنا جميعا إلى الشيطان، فقط لأن شغل دمشق الشاغل منازلة الله، حاشى لله، في لعبة البقاء.