سورية الغد

تبدو المشكلة أحيانا وكأنها هاربة من أساطير القرون الوسطى، فعندما نتحدث عن الإصلاح، الاقتصادي بالطبع، يهاجمنا كم من تحليلات الخبراء والوفود الفرنسية والماليزية، وأحيانا محاضرات تشكل بوابة عريضة لقراءة صورة لا نعرف بالضبط كيف يمكن أن نتعامل معها. فإذا كان الاقتصاد السوري اليوم مساحة للاجتهاد وللاستخدام المصطلحات التي داهمتنا فجأة فخلقت كما من الاختصاصات التي كانت ضمن حيز المجهول في معارفنا، فإننا اليوم نشاهد التقارير وسط حالة من الدهشة والتساؤل بما يعنينا أو يخصنا من المؤشرات الاقتصادية المقدمة، وما هو الضروري كي نحفظه عن ظهر قلب!!!

ولكي لا ندخل ضمن علم نجهله فإننا نفضل الانتظار لمعرفة "زيادة الرواتب" أو "ضبط الأسعار" أو حتى إمكانية شراء عقار أو سيارة، وهذه الأخبار هي المفضلة دائما لمن يتصفح الإنترنيت على عجل، أو يمسك بصحيفة محلية ويبحث عن خبر سعيد ينهي "الصورة التقليدية" للموظف الذي انتقل موقعه من "الطبقة الوسطى" باتجاه "الشريحة المجهولة".

هذا الاختلاط الذي يبدو وكأنه نوع من الهروب داخل المصطلحات يعبر بوضوح عن مساحة الإصلاح، لأن البيانات التي تتحدث عن حجم الاستثمارات لم تعد ملموسة بالنسبة للتعداد السكاني المتزايد ولا حتى لرواد سوق العمل على اختلاف اختصاصاتهم، رغم أننا نسمع عن "الوظائف الراقية" أو المهن المطلوبة التي تتطلب شهادات في العلاقات العامة وإدارة الموارد البشرية وغيرها من المجالات التي فتحت وتتطور باستمرار داخل الشركات التي ظهرت بشكل متسارع في سورية.

لكن المسألة على ما يبدو هي التناقض الصارخ بين الحيز الضيق لمجالات العمل الجديدة وطبيعة "الشريحة المجهولة" التي أطلق عليها يوما "الطبقة الوسطى" ثم ضاعت في مطبات صناعة السياسة والاقتصاد، فوجدت نفسها بعد أكثر من نصف قرن دون هوية وفضلت التعامل مع الوظائف الرسمية المصنفة وفق "الفئات" المعروفة داخل "قانون العمل".

والمسألة أيضا في أن التنافر الصارخ بين سوق العمل وضرورات الإصلاح "تهمش" يوميا "الطبقة الوسطى" لأنها تدفعها نحو البحث داخل نوعية الاختصاص في وقت لم يأخذ في الإنتاج السوري هوية واضحة. ففرص العمل تقع خلف جغرافية من التأهيل والتدريب والمهارات التي لا توفرها سنوات الدراسة العادية، ولا حتى طبيعة الحياة السورية وأنشطتها وحتى ثقافتها.

وفق هذه الصورة يمكننا النظر إلى "الطبقة الوسطى" اليوم التي أصبحت داخل مساحة غائمة، حيث لا نستطيع تحديد شكلها الحقيقي ولا طبيعة الإنتاج الذي تقدمه. وهي "الطبقة" المتحولة بطبيعتها تعيش اليوم رغبة الاستقرار في البحث عن موقع واحد يمنعها من السقوط باتجاه خط الفقر، أو يفتح لها فرصة ذهبية للعمل في إطار جديد ترتفع به تدريجيا ولكن دون الإنتاج الحقيقي أو الجرأة الذي يميز هذا الطبقة منذ أن تم تصنيفها من قبل الباحثين الاقتصاديين.

عمليا فإن الإصلاح الاقتصادي يقدم لهذه "الشريحة" آمالا خرجت من ثقافتها، لأنها لا تمتلك اليوم الرغبة الحقيقية في التعامل مع أي عمليات تحول، بينما يرضيها نوعيات فرص العمل التي تظهر كمساحات ساكنة لا تتطلب "التنافس" على الإنتاج بل على اكتساب المزايا. فانتقلت "الطبقة الوسطى" نحو تبديل مهامها داخل المجتمع، بينما تبدل تكوينها من فئات تقنية أو حتى حرفية باتجاه الخدمات التقليدية.

هذه الصورة للطبقة الوسطى مختلفة تماما عن التوصيف القديم لها، وهي بالفعل خلقت ثقافتها داخل المجتمع عبر ارتداد نحو مراحل ما قبل "الدولة المعاصرة" كفئات سكانية واسعة تعرف "موقعها" وقدرها ولا تبحث عمليا سوى عن تطوير مساحتها الذاتية ببعض "المكاسب" أو بامتهان أساليب التعايش مع الواقع الاقتصادي بالدرجة الأولى.

الإصلاح الاقتصادي اليوم خسر الطبقة الوسطى، وهو بحاجة لاسترداها ليس فقط بالإجراء الاقتصادي بل بالبحث من جديد عن عمليات لإعطاء الإنتاج هوية جديدة تجد الطبقة الوسطى فيه مجالا واسعا لنشاطها.