قبل اغتيال الشهيد رفيق الحريري سنت واشنطن قانوناً أسمته: قانون محاسبة سوريا، متذرعة ـ كالعادة ـ بتدخل دمشق في العراق والسماح لشرذمة الإرهابيين بالعمل ضد القوات العسكرية الغازية،

وهذا المسلك يعرقل المهمة النبيلة التي غزت العراق من أجلها، ألا وهي: إقامة أول نظام ديمقراطي في أول بلد عربي، وإزالة نظام قمعي جثى على صدور العراقيين عقوداً من الزمن.

هذه المهمة «النبيلة» لم نسمع بها إلا بعد فشل واشنطن في العثور على أي دليل لأسلحة الدمار الشامل في العراق والتي اتخذتها ذريعة ـ كالعادة ـ لشن الحرب.

قانون محاسبة سوريا هذا لم يتم سنه مهما تبجحت الإدارة إلا لغرض واحد وحيد وهو: أن تسكت سوريا وإلى الأبد عن المطالبة بتحرير التراب الذي تحتله الدولة العبرية (هضبة الجولان)

وإذا لم تذعن دمشق لهذا القانون فواشنطن على أتم استعداد لتطويره إلى الأخطر؟! حتى لكأن المطالبة بالحقوق أصبحت جريمة يحاسب عليها القانون في منطق أمراء الظلام في البيت الأبيض.

عندما وقعت عملية اغتيال الشهيد رفيق الحريري سارعت واشنطن ومن لف لفها إلى اتهام دمشق مباشرة بهذا العمل المشين، بل سارعت إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بتشكيل لجنة تحقيق دولية، بدأت أعمالها فور تشكيلها.

اللجنة الدولية، قد تشتبه في بعض المتورطين من سوريا ولبنان، لكن (قد) هذه تقع في خانة الشك، ولغة القانون تقول: الشك يفسر لمصلحة المتهم، أما القرآن العظيم فيقول: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)،

وهناك القاعدة الفقهية القائلة بدرء الحدود بالشبهات.. الخ.. وإذا كانت اللجنة تشتبه فقط فإن واشنطن تؤكد صباح مساء على ألسنة مسؤوليها أن سوريا متورطة في عملية الاغتيال حتى قبل أن تنتهي اللجنة من تقديم تقريرها النهائي إلي مجلس الأمن الذي كلفها ذلك!

ترى لماذا هذا الإصرار على الزج بسوريا في قضية مازالت بيد المحققين وهم من هم من حيث التجربة والعلم في مجال تخصصهم؟! وهب أن عنصراً مخابراتياً سوريا سولت له نفسه الاشتراك في جريمة الاغتيال، بشكل أو بآخر، فهل من المنطق والمعقول،

بل ومن العدل معاقبة السوريين كلهم من حاكم ومحكوم بجريرة لا يعرفون عنها شيئاً ولا لهم مصلحة فيها؟ بل هم أبعد ما يكونون عن ذلك العمل الإجرامي، لماذا لا تطبق واشنطن هذا المنطق على نفسها قبل تطبيقه على الآخرين؟ أليست الداعية للحرية وتطبيق الديمقراطية في العالم؟

والشعب الأميركي، هل طالب بمعاقبة مسؤولي إدارته في قضية إيران جيت أم (حطوها) في رأس ذلك الجنرال سيئ الحظ اوليفر نورث؟ هل نسي العالم تلك القضية؟ ترى من أمر ذلك الجنرال بما قام به؟ أنفسه سولت له ذلك؟ أم من؟

على كل حال لقد وعد الرئيس السوري بتقديم أي متورط سوري في هذه الجريمة الشنعاء للعدالة وبغير مواربة فهل تفهم واشنطن ذلك؟ لا يا واشنطن، ما هكذا تورد الإبل، لقد تذرعت إدارة بوش بأسلحة الدمار الشامل لغزو العراق،

وها هي ذي دار السلام تئن تحت وطأة الاحتلال البغيض وما صاحبه ويصحبه كل مطلع شمس من أعمال إرهابية فظيعة تشيب لها ناصية الصبي. إن إدارتك يا واشنطن لا تحرك ساكناً بالنسبة للقنابل الذرية الإسرائيلية،

أما وكالة الطاقة الذرية، ومديرها البرادعي الحائز على نصف جائزة نوبل برضاك، فلا يجرؤون على النبس ببنت شفة عن أسلحة إسرائيل ذات الدمار الشامل؟!

أنت يا واشنطن، لا هم لك منذ الحادي عشر من ذلك الشهر المشؤوم، إلا العرب، تنتقمين منهم وتسومينهم أصناف الويلات من تهديد ووعيد، لأن زمرة موبوءة الشعوذة، والخارجة للتو من كهوف تورا بورا نفذت جريمة لم تقدر عواقبها الوخيمة على هذه الأمة المنكوبة، عواقب أقل ما فيها، انها وصمت النضال بالإرهاب،

وأن كل من يناضل من أجل استرداد حقوقه وتحرير أرضه مجرم إرهابي! وبذلك أطلقت يد تل أبيب المدججة بكل أنواع الأسلحة المتطورة لتقتل الأبرياء العزل من أبناء الشعب الفلسطيني، وتجرف مزارعهم، وتهدم منازلهم على رؤوسهم،

بل على رؤوس الأشهاد في مجلس الأمن؟ مستندة بكل ثقة، وتغطرس، واستعلاء، إلى تأييد مادي ومعنوي منقطع النظير توفره لها حليفتها الاستراتيجية واشنطن.

وواشنطن هذه الجشعة بكل المعايير والحقودة بكل المقاييس على العرب بوجه خاص، لم تكتف بهذا القدر من الظلم ضدهم ـ أي العرب ـ بل ها هي ذي تسعى إلى مسخهم بتأسيس شرق أوسط كبير تذوب فيه القومية العربية وتحل محلها القومية العبرية! وبذلك، تكون تل أبيب عاصمة لهذا الشرق الأوسط الكبير؟

وما إصرارها على إقحام دمشق في جريمة اغتيال الشهيد الحريري إلا تمهيد للهجوم على آخر معقل عربي متمرد علي السياسة الإسرائيلية في المنطقة وتقويضه.

والآن... لعل واشنطن أدركت بعد ثلاث سنوات من الغزو أن الوضع في العراق يقتضي إعادة الحسابات. لذلك نراها بدأت في مغازلة النظام الإيراني بقبول دعوته للحوار، لأنه النظام الأكثر تأثيراً على الوضع في العراق لاعتبارات معروفة!

ولكن الحوار أيا كان نوعه بين واشنطن وطهران، فمن المؤكد أنه لن يخرج عن دائرة المصالح الإيرانية الأميركية، إذ لا شأن لهذا الحوار بالمصلحة العراقية ولا أية مصلحة عربية أخرى، اللهم إلا تلك التي سيجد الطرفان فيها ما يخدم مصلحتيهما أولاً وأخيراً.

والغريب في الأمر أن إيران التي دأبت على وصف الولايات المتحدة الأميركية بالطاغوت، هي إيران ذاتها التي هيأت لمعظم رجال الحكم الجديد في بغداد الوصول إلى سدة السلطة في المنطقة الخضراء على ظهور الدبابات الأميركية؟!، ولا يستبعد أن يكون هناك من يتمنى تعميم الوضع العراقي على دول الجوار العربي؟!

إن الحوار الأميركي الإيراني المرتقب سيشكل منعطفاً تاريخياً مهماً في علاقة الدولتين الفارسية والأميركية، ولكن السؤال يبقى: ما الذي ستطرحه

كل من طهران وواشنطن في حوارهما المرتقب؟، أهي المسألة العراقية فقط؟

وماذا عن القضايا الأخرى العالقة منذ الثورة الخمينية وحتى الآن؟، وهل سيتضمن الحوار البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل؟ورغم أن الوقت كفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة،

فلا بأس من أن ترى ـ أخي القارئ ـ كما أرى أن من مصلحة واشنطن في المنطقة، في نهاية المطاف مصافحة طهران بحرارة مقرونة بالسماح لها بالمضي قدماً في برنامجها النووي السلمي؟