خلال الاسبوع الأخير مرت على سوريا ثلاثة أحداث تستدعي الذاكرة الوطنية: ذكرى السابع من نيسان, ووفاة كبيرين من كبار سوريا محمد الماغوط وعبد السلام العجيلي, وبعد فترة ستأتي ذكرى 17 نيسان, كذكرى تأسيسية للذاكرة الوطنية.
الفرق بين الذاكرة( أو التراث) والتاريخ, ان الذاكرة تحيل الى تاريخ معياري, غير حقيقي. تاريخ مليء بالفجوات ومؤول. الذاكرة هي قراءة منحازة للتاريخ. نحن جميعا نملك تاريخا واحدا ولكننا نملك أكثر من ذاكرة, وبالتالي أكثر من تجربة حياة. الذاكرة دائما موضع تشكيك لأنها غير حيادية, غير صادقة. وأيضا موضع صراع وخلاف لأنها مصدر للشرعية والمعنى. نحن نتصارع على ذاكرتنا وليس على تاريخنا.

سوريا غير المتصالحة مع ذاتها ( بتعبير الحاج صالح) هي سوريا التي لا تملك ذاكرة وطنية, بل أكثر من ذاكرة وطنية. اليوم نرى صراع على هذه الذاكرة مع محاولة المعارضة قراءة فترة الخمسينيات بشكل مضاد, كفترة ذهبية (أو شبه ذهبية) أي تأسيس لذاكرة مضادة للذاكرة المهيمنة. ذاكرة تشكك بشرعية الذاكرة الحالية. كل صراع يفترض تشكيك بالذاكرة المهيمنة وتأسيس ذاكرة بديلة (مضادة)
لكن بالمقابل هناك رغبة متزايدة في مصالحة سوريا مع ذاتها ( أي مع تاريخها ومع ذواكرها المختلفة) هذا المسعى لا يمكن أن ينجح الا اذا وقفنا من جميع الذواكر المختلفة موقفا نقديا. علينا أن نردم الفجوات في تاريخنا, أن نقف ضد التأويل المشتط, انحرافات القراءة المغالية.

7 نيسان ذكرى تأسيس حزب البعث العربي تستدعي الى هذه الذاكرة الوطنية اسم ميشيل عفلق. وهو أكثر من ظلم من قبل ذواكرنا المختلفة. عفلق المعلم, القائد المؤسس, اليميني, النازي وغير ذلك. عفلق هو اما منفي من الذاكرة أو ضحية للنمذجة المطلقة.
ميشيل عفلق الانسان, المفكر, السياسي غير موجود ولا يستدعيه أحد. لا ترحب به أية ذاكرة حتى الآن. فلنحاول قليلا أن نقترب من ميشيل عفلق وقدر الامكان بعيدا عن أية ذاكرة ( ولا يوجد أحد منا بلا ذاكرة)

ارتبط اسم عفلق, المنتمي الى الجيل القومي الثاني, مع أحد أهم المشاريع العربية خلال القرن العشرين (حزب البعث العربي) هذا الحزب الذي شكل ظاهرة سياسية وثقافية في عدة بلدان عربية واستلم زمام السلطة في سوريا والعراق. عفلق مثل بشخصه عدة اشكاليات في المشرق العربي.
أولها عفلق المسيحي الذي كان استمرارا وتطورا للنهضويين العرب المسيحيين الذين ظهروا في الامبراطورية العثمانية والذين أحيوا اللغة العربية وآدابها. اللغة شكلت بالنسبة اليهم فضاء الانتماء الحقيقي في مواجهة حقيقة كونهم أقلية ضمن فضاء اسلامي. عفلق, استمرارا للتقاليد المشرقية التي خاضت حرب استقلالها الأولى ضد العثمانيين مؤكدة على الرابطة القومية في مواجهة الرابطة الدينية وتقاليد الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي, كان احدى لحظات الوعي المسيحي الذي رأى ان خلاصه سيكون عبر رابطة جديدة متجاوزة للروابط القديمة من طائفية وعشائرية, وهذه الرابطة هي الرابطة القومية.

القومية العربية كانت مشروعا قدم للمسيحيين العرب فرصة المساواة والاندماج مع اخوانهم العرب المسلمين. كما كانت حلما بالوحدة التحرر واستعادة للوضع التاريخي المفقود لجميع العرب. هذه اللحظة من الدور السياسي المسيحي مثلها عفلق كما مثلها سعادة وزريق وحبش وآخرون.
هزيمة المشروع القومي كانت نقطة الانكسار والتحول للوعي السياسي المسيحي العربي. الطائفية السياسية, الكيانية, أو تطليق السياسة تلك هي المآلات التي انتهى اليها الوعي المسيحي.
عفلق انتهى الى عون وبينهما يوجد تاريخ تلك "العلاقة المستحيلة" بتعبير فايز قزي. راهنية عفلق هي أيضا راهنية اشكالية عفلق التاريخية أي المسيحي العربي المشرقي.

عفلق ونقد الحزب: قدم عفلق الكثير للبعث وربما كل شيء قدمه كان للبعث, لكن الكثير مما قدمه كان نقد حزب البعث. الكثيرون لا يعرفون أو يتناسون نقد عفلق لممارسات حزب البعث في العراق بعد ثورة شباط 63, وتحديدا نقده للممارسات ضد الشيوعيين.كثيرون يتجاهلون مواقف عفلق من مسألة اليمين واليسار داخل الحزب, والتي طرحت خلال المؤتمر القومي السادس 1963 ونقده لمن سماهم بمدعي اليسار والذين يعيشون في القصور. الكثيرون أيضا لا يعرفون موقف عفلق من الأقليات القومية ومنها الأكراد, وأعتقد انه متقدم على الكثير من المواقف العربية الحالية المؤيدة لهم. عفلق تحدث عن حق الأكراد بالتكلم باللغة الكردية, بحقهم القومي (شخصيتهم القومية) انطلاقا من فهمه للمسألة القومية, القومية العربية ذات البعد الانساني. وعفلق هو من المنتمين الى نظرية الأمة-اللغة, وليس الأمة-العنصر.

اشتهرالكثير عن عداء عفلق للشيوعيين, لكن لنتساءل عن أي شيوعيين تحدث عفلق؟
فهو مثلا يقول ب" التعاون الحر بين الشعوب الاشتراكية الحرة" وهذا ما أرى انه قريب الى معنى الأممية كما فهمها كبارها بدءا من لينين. هل قدم الشيوعيون العرب في ذلك الوقت فهما آخر للأممية؟

بين عفلق والحوراني اكتشف البعث أمورا تقدم بها كثيرا على أحزاب عصره, وأهمها تلازم النضال القومي والطبقي وقضية الفلاحين, حتى الوصول الى جيل جديد في حزب البعث, ممثلا بياسين الحافظ, قدم التنظير الأكمل لهذه المسائل وتحديدا في بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث.

اكتشاف البعث لم يمنحه الأسبقية والشعبية على الحزب الشيوعي وحسب, بل جعلته أقرب منه الى اللينينية والى امتلاك وعي متقدم بالواقع العربي قياسا على وعي الحزب الشيوعي آنذاك.
لم يكن عفلق السياسي بميزات عفلق المفكر. فسقطاته السياسية, كشريكه الثالث الحوراني,كثيرة وكبيرة بدءا من الزعيم الى صدام مرورا بمباحثات الوحدة مع عبد الناصر. وعفلق المفكر كان هو الآخر وفيا للسياق الذي عاش فيه, سياق حركة التحرر الوطني في عز جبروتها والتي امتلكت من الأحلام والمشاريع الكبيرة بقدر مارمت مشاكل مجتمعها على رقبة الاستعمار.

عفلق امتلك مشروعا حالما ونهضويا للأمة التي انتمى اليها والتي أحبها صادقا حتى نوى خلاياه. بعث عفلق لم يكن حزبا انما نهضة تمتد لعشرات ومئات السنوات, بعث عفلق كان ( أو افترض أن يكون) انوذجا مصغرا للأمة.
هذا العفلق أثر فينا وربما بما لم يستطع آخرون أن يفعلوه. هو جزء من تاريخنا, وحقه وحقنا على أنفسنا أن نستعيده. فبدونه, كما بدون العظم والكيخيا والنحلاوي, مصطفى السباعي وبكداش, الأرسوزي والحوراني والبيطار, الزعيم والشيشكلي, عمران وجديد, علوان والسراج, وحافظ الأسد لا نستطيع أن نتحدث عن ذاكرة وطنية حقيقية, عن سوريا متصالحة مع ذاتها ومع ذاكرتها الوطنية.
قالت سعاد جروس للعجيلي انه لا يموت لأنه جزء من ذاكرتنا الوطنية وكذلك الحال مع عفلق. ربما من حقنا أن نحلم بيوم 7 نيسان نضع فيه الزهور على قبر ما لميشيل عفلق وفاء لحلمه الطويل.