الجميع يشـهد للذهنية السياسية السورية بأنها استباقية في مراميها وبعيدة المدى في رؤيتها وتبصرها لخفايا المستقبل السياسي وتطوراته واحتياجاته و تداعيـاته على الصعد التي قد لا تظهر للكثيرين من المتحمسيـن لأفكار تتولد في لحظات الانفعـال وتتبعثـر مع رزاز فقاعات الأماني في الأفق البعيـد .

فما من شـك بأن الرغبة في تنشيط الحياة السياسية وخلق حـالة ايجابية من الحراك السياسي المتوازن
باتت تشكل هاجسا" وطنيا" عاما" لما له من أهمية في الشكل و خطورة في الآثار والنتائج . وعندما نتكلم عن قانون عصري للأحزاب فيجب أن لا يغيب عن ذهننا خصوصية مجتمعنا السوري بعناوينه العريضة وبتفاصيله الدقيقة , هذه الخصوصية التي تستوقفنا لكثير من التأمل والتمحيص في خفاياها وفي تداخل وثاقها وأمصارها وتلوّن أطيافها وأشكالها لا تقبل بالبسيط الآني وإنما كانت مثلا" يحتذى في تعايش غير مسبوق لشعب غير السوريين و لتجانس مشهود له في وحدة الرؤية و توحّـد الأهداف التي تصب في إطارها العام ضمن الصالح العام بشقيه الوطني والقومي .

فالمجتمع السوري ذاك المجتمع الحضاري العريق في تمرسه وممارسته للعمل السياسي يشهد له تاريخه السياسي الحديث باستباقه في رؤيته لكثير من المجتمعات والدول المتقدمة عندما أدرك زعماء الأحزاب في سوريا وعلى اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم السياسية هذه الخصوصية وأعلنوا اتفاقهم على القاسم المشترك الأكبر في الفكر والممارسة وهو الوحدة الوطنية في خدمة السياسة السورية فكانت الجبهة الوطنية التقدمية جامعة الأحزاب و موحدة الشعب تحت علم ونشيد حماة الديار .
إن هذه الظاهرة المجربة بمالها وعليها كانت و مازالت فريدة ومتميزة ولا يساورني أي شك في أن الهـدوء والتروي الذي تتسم به القيادة السياسية السورية في بحثها لموضـوع الأحـزاب فلأنها أيضا" تبحث عن ظاهرة استباقية جديدة ومتميزة .. ويبقى السؤال الأهم كيف يحافظ السوريون على تميزهم في ظل قانون متميّـز للأحــزاب ؟؟ من هذا السؤال الجوهري ننطلق في توصيف و تأطير حقيقي وواقعي للحالة الوطنية السورية التي لا تشبه أحدا" في العالم غير السوريين .

فقد دفعت العديد من الدول العربية والأجنبية ثمنا" باهظـا" عندما تسرعت في فتح الأبواب الواسعة أمام تنظيمات جرتها فيما بعد إلى ساحات النزاع الداخلي والاقتتال الطائفي و حتى العرقي على فرض اختلاف أعراقهم وهذا الأمر يتعارض مع ثابت عربي واحد هو الهوية العربية باعتبارها حالة قومية وليست حالة منفردة تخص دولة" دون أخرى .. هذه الدروس كان علينا أن نتعلم منها وان نستفيد كسوريين تجنبا" للوقوع فيها كما وقع غيرنا , ومن هذا المنطلق فان خصوصيتنا السورية بشكلها وبدورها العربي الفاعل تفرض نفسها على شكل وشروط وجود الأحزاب الجديدة التي لا بد وأن ترتكز في مفاهيمها على مسلمات وطنية لا يمكن تجاوزها باعتبارها محل إجماع الجميع كثابت وطني ضامن لوحدتنا الوطنية وحافظ للصروح والإنجازات العديدة التي تحققت .. ومن هذه المسلمات والمفاهيم :

أولا" – أن تملك رغبة العون والمشاركة في التطوير والبناء انطلاقا" من مقتضيات وحاجات المجتمع السوري الواسع دون تحديد أو تقييد لاتجاهات عملها أو توجهاتها على أن تكون في إطار رؤية مستقبلية بتشخيص وطني صادق وعقلاني وبفعل اجتماعي متكامل ومنظم بروح الفريق الواحد لا أن تحمل فكر المغالاة و الإلغاء والتفرّد .. وهذا العنوان العريض للتوجهات العامة لابد وأن ينبثق عن ثوابت وطنية سورية تؤكد على خصوصيتنا الفريدة ..

ثانيا" – يجب تأصيل و تكريس علمانية الدولة السورية بتبني الأحزاب الجديدة لمفهوم العلمانية الذي يحفظ له فضل وحدتنا الوطنية كحالة قدرية تتماشى مع واقعنا وخصوصيتنا .. ومن هذا المنطلق فشهادة النسب لهذا الوطن لن يحملها إلا من يعتبر نفسه منتميا" للهوية الوطنية السورية بأفقها الواسع و بعيدا" عن الانتماءات الدينية أو الطائفية أو المذهبية الضيقة التي لا يجوز أن تكون أساسا" للعمل السياسي , فسوريا بكيانها الجغرافي والبشري ملك لأبنائها وأي عمل سياسي يجب أن يصب في خدمة الوطن العليا .
ثالثا" - إن الإيمان بالسيادة الوطنية الكاملة مسلمة لا تتجزأ لا فكرا" ولا ممارسة وان المواطنة الصادقة تؤمن بالفعل الوطني الداخلي ولا تقبل بالاستقواء بالخارج أو بالسماح للآخرين في التدخل بشؤون بيتنا الكبير .

من هذه المسلمات يجب أن تنطلق وتتحدد أشكال أحزابنا التي تأذن بالمجيء بعد طول انتظار .. وان الحاجات المتزايدة و ضرورات الإصلاح الوطنية تفرض حراكا" سياسيا" لابد وان يتزامن مع تسارع مقبول في الإعلان عن الخطوة المرتقبة التي تتعطش لها عيون السياسيين بعد أن أصبح قانون الأحزاب حاجة ملحة ومطلب وطني داخلي تفرضه ظواهر الترهل والجمود والاختلال التي لحقت بالحياة السياسية وبالحالة المجتمعية السورية .