تفاءل النظام السوري كثيراً بانتهاء مهمة ديتليف ميليس، رئيس لجنة التفتيش الدولية الألماني، الذي قام طيلة ستة أشهر بالتحقيق في اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان الأسبق، ثم أنهى مهمته لأسباب بقيت غامضة، قالت سوريا إنها نقص المهنية الذي أظهره في مسائل عديدة، وقال هو إنها رغبته في العودة إلى بلاده، بعد أن وضع التحقيق على سكة صحيحة بخبرته ومهارته، مما جعل تسليمه إلى غيره مسألة لا تهدد سلامة النتائج التي يجب أن تتمخض عنه. ومع أن شائعات كثيرة عزت مغادرته إلى تذمره من سلوك أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان، الذي تفاهم مع الروس بالنيابة عن الأمريكيين، على التحقيق مع بعض السوريين في فيينا، بينما كان ميليس يفضل إجراءه في دمشق، فإنه ليس مؤكداً بعد ان الرجل “قرف” لأن رئيسه عمل من وراء ظهره، بل إنه نفى هو نفسه ذلك بطريقة غير مباشرة، وإن كان قد ألمح إلى تدخلات غير حميدة وغير مهنية في تحقيقاته، تركت بصماتها السلبية عليها، فلم يبق له من خيار غير المغادرة.

ارتاحت دمشق لذهاب ميليس واعتبرته انتصاراً لها، وهي التي لاحقت مهمته بالنقد والتحفظ، ووجهت إليه تهماً ثقيلة رأت بعضها فيه صهيونياً وعميلاً للأمريكيين، لم يأت كي يحقق، بل ليعلن النتائج التي أوحى سادته بها إليه وتقطع بإدانة سوريا ونظامها وتعتبرهما مسؤولين عن اغتيال الحريري، مع أنه لم تتوفر أية أدلة جدية على ذلك. في الوقت نفسه، أكد أهل النظام بفرح أن ما يجري يعني وصول التحقيق إلى نهايته، وفشله في العثور على دور سوري في الجريمة، وثبوت براءة النظام من دم رجل الدولة اللبناني. هكذا، تلازم الارتياح السوري مع الثقة بالنفس وغياب المحقق/ العدو، وبدا وكأن الأزمة صارت من الماضي، وأن أحداً لن ينجح في تجديد دمائها، خاصة وأن براميرتس، المحقق الجديد، أبدى خلال زيارته الأولى إلى دمشق قدراً من التعاون أدهش السوريين الذين فاوضوه، وجعلهم يعتقدون أنه لم يأت كي يواصل التحقيق، بل لينهيه في أقرب وقت، وأن الوضع الصعب، الذي عرفه النظام بسبب اتهامات القاضي السابق، يوشك أن ينتهي، وأن بالإمكان العمل وكأن الأزمة لم تعد موجودة أو عصية على التحكم، فليس لأحد أن يوليها بعد كبير اهتمام، وليس لحسابات النظام أن تنطلق منها أو تتوقف عندها.

في هذه الأجواء، أصدر براميرتس تقريره الأول، بعد أن لزم الصمت طيلة فترة امتدت لشهرين ونيف، لم ينطق خلالها بكلمة واحدة، ولم يوزع أية معلومات على الصحافة، سواء كانت تحتمل قراءات كثيرة كالمعلومات التي كان يوزعها ميليس أم واضحة لا تحتمل أي سوء فهم. ومع أن الرجل اعتبر تقريره بتقرير خبرة، فإن سلوكه ما لبث أن أثار ملاحظتين مقلقتين هما:

أنه لم يطلق سراح أي معتقل أمر ميليس بإيقافه في لبنان، بل أعلن أنه سيأمر في مرحلة ما من مراحل التحقيق بإيقاف متهمين سوريين، وسيحقق مع كبار قادة النظام في دمشق: كالرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع.

أنه كرر في تقريره القسم الأكبر من اتهامات وتحليلات ميليس، حتى بدا وكأنه ينقل نص التقريرين اللذين قدمهما هذا الأخير إلى مجلس الأمن، مع إضافة صغيرة هنا وحذف قليل الأهمية هناك. قال المحقق الجديد: إن هناك قوة على درجة رفيعة من التنظيم، تملك قدرات الدول ولديها جهاز واسع ومتشعب وخبرات متقدمة، هي التي خططت للجريمة ونفذتها، وأن هناك لبنانيين كباراً ساعدوها.

جاء رد الفعل السوري الأول متحفظاً ولكن من دون ضجيج، وقيل همساً: ليس الرجل كما اعتقدنا، فهو لم ينقض ما قاله سابقه، وقبل الاستماع إلى عبد الحليم خدام كشاهد، ولم يتخل عن التحقيق مع سوريين نافذين جداً يعلنون براءتهم من القتل، وأدخل القضية في الغموض عوض أن يدخلها في النسيان، وشحنها بعلامات خطيرة ومنطويات قد تكون شديدة السوء، خاصة وان خدام نشر تسريبات يفهم منها أن التقرير النهائي سيتضمن معطيات يمكن لمتابعتها دولياً أن تهز استقرار النظام الداخلي، وتهدد رموزه، وتزيد عزلته الدولية. وزاد الطين بلة أن الرجل ليس من الذين يمكن اتهامهم بتسييس التحقيق أو بالعداء لسوريا أو للعرب، فهو القاضي الذي أمر باعتقال شارون، رئيس وزراء العدو، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حين كان على وشك زيارة وطنه بلجيكا، وهو الذي تعرض لحملة إعلامية صهيونية شعواء اتهمته بعداء السامية وكره اليهود، ولم يقل شيئاً يمكن انتقاده بسببه، وسيؤكد أي موقف سلبي منه تهماً وجهت إلى النظام رأت في موقفه من ميليس موقفاً من تحقيقات اللجنة الدولية، التي تريد دمشق طيها والتخلص منه.

واليوم، توجد ثمة مخاوف في دمشق من أن يكون المحقق الجديد فخاً نصب للسياسة السورية ودورها الإقليمي. وهناك اعتراف بأن براميرتس أكثر ذكاء وربما خبثاً من سابقه، وأنه ربما كان يفوقه مهنية، بينما يمكن لطريقته أن تشكل إرباكاً خطيراً لسوريا، بسبب سريتها واعتمادها أسلوب العمل الصامت وما تتضمنه من مفاجآت يجهلها المرء، قد تضعه أمام تحديات مباغتة ذات نتائج وعواقب مؤذية، لا سيما وأن مسار تحقيقاته يشير إلى عثوره على أدلة جديدة ضد المتهمين باغتيال الحريري، جاء بعضها من أسلوبه في قراءة ملفات التحقيق، الذي يختلف عن أسلوب سلفه، ويعتبر أكثر جدوى منه.

سيقدم براميرتس تقريره في الخامس عشر من الشهر المقبل إلى مجلس الأمن. وإذا لم تحدث مفاجآت غير متوقعة، فقد يظهر أن تغيير المحقق لم يكن بالضرورة ما خالته دمشق: أمراً لمصلحتها، وقد يضعها أمام نتائج نهائية لطالما حاولت التنصل منها، وتخطيها، ستترتب عليها تدابير وإجراءات دولية وإقليمية غير مستحبة، هذا إذا تجاهلنا حقيقة مهمة هي أن خطة عبد الحليم خدام لزعزعة النظام مبنية في جوهرها على مفاجآت كهذه.

لم تصبح جريمة اغتيال الحريري من الماضي بعد، وخاصة بالنسبة إلى أهل النظام في سوريا، الذين فرحوا قبل الأوان بذهاب ميليس، ويقولون اليوم بصوت خافت: إن خليفته الغامض قد يكون أشد خطورة منه.