في السابع من ابريل من العام 1947 تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق على يد كل من ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار وفي ما بعد أكرم الحوراني, وفي ذلك الوقت أتى الحزب ليعبر عن طموحات الكثير من الشرائح المتوسطة والفقيرة في سورية، وفي العديد من الدول العربية، كذلك مثّل الحزب اغراء للطموحات الناشئة في المنطقة ازاء حلم دولة الوحدة العربية ونظام العدالة الاجتماعية الممثل بالاشتراكية.

ومنذ التأسيس وحتى وصوله الى السلطة في سورية عام 1963 استفاد الحزب من الحياة الديموقراطية التي كانت سائدة في البلاد، فحقق مكاسب في البرلمان، واستطاع استقطاب عشرات الآلاف من الأعضاء, ومنذ استلامه السلطة وحتى أعوام قليلة خلت، عمل حزب البعث على اقامة الاحتفالات الضخمة والمميزة بهذه المناسبة، فهذا اليوم من كل عام يعتبر عطلة رسمية في البلاد، وغالبا ما كانت تقام الاحتفالات في المدارس والجامعات والمعامل وثكنات الجيش، اذ تلقى الكلمات ويتم تدشين العديد من المنشآت الحيوية، وأحيانا كانت المدن السورية، وبخاصة العاصمة دمشق تشهد مسيرات تأييد «جماهيرية» و«عفوية» للحزب، كذلك كانت تصرف الملايين من الليرات السورية كل عام لأجل نفقات التزيين ومستلزماتها من لوحات وصور واعلام وشعارات، وغالبا ما كان هناك مستفيدون من المناسبة.

اليوم، أو بالأحرى، منذ استلام الرئيس بشار الأسد للسلطة عام 2000 خفت، وبتدرج المظاهر الضخمة والمبالغ بها للاحتفالات، واقتصرت على مجرد لافتات بسيطة وقليلة على مداخل بعض المؤسسات والوزارات، كما لو أنها للتذكير بالمناسبة فقط, ويبدو أن الرئيس الشاب أدرك أن أموالا كثيرة تهدر وتسرق بحجة الاحتفالات.

كذلك لعبت المتغيرات الاقليمية الناشئة في المنطقة منذ الاحتلال الاميركي، للعراق وسقوط الجناح الآخر من الحزب (بعث العراق) في عام 2003، اضافة الى الضغوط المستمرة على دمشق، في تخفيف زخم الاحتفاء بهذه المناسبة، فقد بات مصير الجناح السوري من الحزب في خطر ايضا، وخصوصا في أعقاب توجهات اميركية ودعوات «لاسقاط النظام» وفي وقت لاحق «تغييره».
أيضا يجب ألا ننسى الحراك الديموقراطي الذي نشأ بعد أشهر من تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة، والذي اختزله حراك المثقفين في «ربيع دمشق» حين ظهرت دعوات «لتداول السلطة»، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري التي تنص على أن حزب البعث «هو الحزب القائد للدولة والمجتمع», حتى في الأجواء الداخلية الممهدة للمؤتمر القطري العاشر للحزب في يونيو من العام الماضي، استحوذت النقاشات الداخلية المطالبة بتغيير أو تعديل أوالغاء هذه المادة على اهتمام شرائح كبيرة من السوريين، لكن رغم ذلك، أي استمرار العمل في المادة الثامنة من الدستور، يجب الاعتراف أن البعث ومنذ اعوام قليلة، وفي اطار ما عرف أو سمي «مسيرة التحديث التطوير» عمل على جلب كفاءات مستقلة، ليضمها الى الحكومة مثل نائب رئيس مجلس الوزراء عبد الله الدردري الى وزراء وسفراء ومدراء عامين، وهذا لم يكن متبعا أو مقبولا في وقت سابق.

هذه الخطوات كانت تترافق مع احتفاء خجول بالمناسبة، فمنذ نحو شهر تقريبا، أي في يوم الثامن من مارس، وهو ذكرى وصول الحزب السلطة عام 1963، كانت المرة الأولى التي يحتفل بها البعث بعيدا عن المهرجانات والخطابات والشوارع، لقد دعا الحزب ضيوفه الى حفل «كوكتيل» في أحد مطاعم دمشق!
ومنذ أيام اقامت القيادة القومية للحزب حفل استقبال بمناسبة تأسيس الحزب، وذلك في مقر القيادة القومية, ولم تقتصر الدعوة على «الرفاق» فقط، بل تم توجيه الدعوة الى فعاليات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية واعلامية ودينية!

ان هذه المظاهر البسيطة من الاحتفاء، تعكس حقيقة أن الأولوية اليوم لم تعد «للحزب» بقدر ما صارت لبناء الدولة الحديثة الخالية من «الأيديولوجيا»، نقصد الدولة المتلطية خلف الايديولوجيا، فالمواطن في سورية والكثير من الدول العربية، لم يعد يحلم بدولة الوحدة العربية وتطبيق النظام الاشتراكي رغم توقه للعدالة، بل صار يحلم بدولة المؤسسات والقانون التي تؤمن له الرخاء والرفاهية ويستطيع أن يلجأ اليها لا أن يخاف منها ويحسب ألف حساب لها كل يوم.

وعليه بات حزب البعث الحاكم في سورية أو أي حزب حاكم في أي دولة عربية مطالباً أكثر من أي وقت بإدراك أن ذلك فقط ما بات يستهوي المواطن, ولأن هذه هي الحقيقة ليست اكتشافا، ولأننا نقول ذلك في ذكرى تأسيس حزب من أهم الأحزاب القومية العربية لا بد من المصارحة وتوجيه بعض الأسئلة لقيادته, لكن قبل ذلك لا بد من التذكير أنه في الخمسينات من القرن الماضي، قام حزب البعث بحل نفسه كشرط وضعه الرئيس المصري جمال عبد الناصر من أجل المضي في الوحدة مع سورية، ورغم أن ذلك الطلب قد رفضه الكثير من البعثيين السوريين، الا أن الحزب وافق أخيراً على ذلك الطلب لأنه رأى في ذلك قضية تفصيلية في اطار الهدف الكبير,,, الوحدة.

اليوم ليس هناك اتجاه أو طلب من أي جهة بأن يقوم الحزب بحل ذاته، رغم وجود سعي اميركي من أجل تصنيفه كمنظمة «ارهابية»، نقول ليس هناك طلب للحزب بأن يحل ذاته، بقدر ما توجد مطالب واستحقاقات كبيرة يجب على الحزب وقيادييه الشباب و«الختيارية» معا أن يقفوا عندها، واذا ما أضفنا الحاجات المتنامية للسوريين وتطلعاتهم الى حياة جديدة الى تلك الضغوط، نكون أمام ضغط داخلي بدافع التطور والغيرة الطبيعية عند السوريين من أجل اللحاق بلغة العصر ومتطلباته.

وعليه ما هو المطلوب؟ قبل أن نجيب يجب الاعتراف أن البعث خلال حكمه وادارته للسلطة في سورية ارتكب، سواء بوعي أو غير وعي، الكثير من الأخطاء، وأن هناك الكثير من البعثيين الذين أساؤوا لسلطاتهم وما يمثلونه، هناك الكثير من تورط بالفساد وأهان السوريين، وهناك الكثير ممن كان في حياتهم وممارساتهم، «بقع سوداء»، حسب ما قالت صحيفة «البعث» في عددها الصادر في السابع من ابريل الشهر الجاري، أي في ذكرى ميلاد الحزب.

وعودة الى السؤال فان المطلوب من البعث ونتيجة الكثير من الأخطاء منذ الوصول الى السلطة وحتى اليوم، ومن أجل أن دواعي الاستمرار، أن يعتمد في عضويته واختياره لكوادره على النوع وليس الكم، لقد صار التباهي بمليون ونصف المليون أو مليوني «رفيق» بعثي مدعاة للسخرية طالما فاخر ديكتاتور مثل صدام حسين البعثي أيضا بسبعة ملايين أعضاء في جيش فلسطين، وحين حصل ما حصل لحظة بدء الاحتلال الاميركي للعراق لم يجد سبعة منهم حوله؟

وأيضا لماذا لا يبتعد البعث حقاً عن السلطة التنفيذية، بمعنى أن يترك فرصة للبقية لإدارة شؤون ليست امتيازا، بل هي مسؤولية ويستطيع القيام بها حتى من هم مختلفون مع البعث في التوجهات السياسية، طبعا على قاعدة الوطنية؟
أما المادة الثامنة من الدستور التي تقول بقيادة البعث للدولة والمجتمع، فهناك الكثير ممن يرون أنها لم تعد ضرورية، فالبعث حزب سياسي، ومسألة القيادة والمجتمع تحتاج لتعددية، ثم أن مثل هذه الادعاءات والأقاويل لم تعد تواكب لغة العصر الحديث والحاجات المجتمعية المتنامية باتجاه الديموقراطية.

كذلك يتحدث السوريون ويطالبون بقانون جديد للأحزاب يسمح بحياة سياسية قائمة على اساس التوازن والتكافؤ والتشارك في السلطة لا على الاحتكار لها، ويطالبون بدفع كبير لمؤسسات المجتمع المدني، كونه يشكل قوة رديفة لا يستهان بها في تنمية وتطوير سورية، وقبل ذلك كله قوة تراقب عمل السلطات التنفيذية، وتساعد في عملية التنمية، اذ من غير المعقول أن تنحصر مسؤولية ذلك بالحكومة وحدها، لأنها بالأصل لا يمكنها تحمل كل الأعباء المنوطة بها على هذا الصعيد.
عود على بدء، لا بد للبعث اذا ما اراد أن يثبت أنه حزب عريق ومتجدد أن يسعى للقيام بمراجعة عامة وشاملة وجريئة لتاريخه منذ وصوله السلطة عام 1963، وحتى اليوم، كذلك لا بد له من اتخاذ القرارات «الجراحية» المستعجلة، ذلك كله اذا أراد الاستمرار وكسب احترام الآخرين.