مسعود عكو

هاتفني صديق عربي سوري يطمأن علي, ويسأل عن أحوال, وأجواء منطقة الجزيرة, وما هي درجة الحرارة؟ وهل الجو جميل؟ و ما شابه ذلك, فقلت الجو حار قليلاً بالإضافة إلى هبوب رياح تحمل معها التراب, وبعض العجاج يجتاح كل أخضر, ويابس في الجزيرة, وقال لي سأرسل لك بياناً بمناسبة ذكرى عيد الجلاء كي تتطلع عليه فقلت نعم, ولكن أي جلاء فإني لا أحس بهذا الجلاء, ولا أشعر بأني قد جليت من أي استعمار.

أخذني الحديث مع صديقي في مشوار فكري أراجع أفكاري, وهواجسي, وما هي حقيقة الجلاء, وهل الجلاء فقط بنزوح قوات الاحتلال, أو الاستعمار, ونهاية حقبة حكم أجنبي على أرض ليست له, جاء متغطرساً يجتاح كل الأوطان, وينصب نفسه حاكماً مطلقاً, ويكلف من يرى في ذيوله أكثر منفعة له, ويوليه الحكم, والسلطة, والقيادة.

فرنسا التي أعلنت انتدابها على سوريا بعد احتلال جيشها دمشق في 23/7/1920 بقيادة الجنرال غورو, الذي ذهب إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي, وقال جملة مشهورة "ها قد عدنا يا صلاح الدين" وذلك رداً عليه عندما قال للصليبيين بعد معركة حطين "إنكم خرجتم من الشرق, ولن تعودوا إليه" وكأن احتلال سوريا هو رد على صلاح الدين الأيوبي, وليس السيطرة على أرض للاستثمار, وسوق لبيع البضاعة الأجنبية.

الجلاء الذي سيدخل ذكراه الستون, وأي جلاء نريد؟ لا زلنا لا نعرف. جلاء الاستعمار عن أرضنا, أم جلاء مكتسباتنا السيئة عن نفسياتنا, أم جلاء النفاق, والرياء, والكذب عن مواقفنا, وتطلعاتنا, وأفكارنا, أم جلاء واقعنا من حقيقته, واستشرابه بأمراض خبيثة لا تنفع في علاجها كل المضادات الكيماوية, والنووية, والحل الوحيد هو استئصالها, ورميها على مزبلة الأيام المنقرضة من جراء هموم واقعنا الصدأ المليء بالخزعبلات الكلامية, وحلبات الماراثون التي يقيهما كل آفاقي الأرض على أرض لا تعترف بهوية أصحابها.

كردياً لا أرى جلاءً جديداً. نعم انتهت فرنسا من انتدابها لنا, وغادر إلى غير رجعة آخر جندي فرنسي إلى وطنه, أو أي مستعمرة أخرى, لا تهمني جهة توجهه بقدر ما ابتعاده عني هو الأهم. لكن! أين الدروس المستفادة من الجلاء, وهل كان يوسف العظمة فقط شخص قد ضاقت به الحياة لكي يضحي بكل ما يملك, وأغلى هذه الأملاك هي روحه, وهل كان مبتغاه فقط الشهادة من أجل الأرض, أم أنها كانت رسالة لغيره لكي يسيروا خلفه في التضحية, والفداء من أجل رفعة, وكرامة هذه الأرض, واليوم أبناء قومه في هذا البلد هم أجانب, ومكتومين فأي جلاء أخوة, وأبناء عمومة يوسف العظمة من هذا الجلاء.

أي ثناء قدم لآل هنانو البطل الكردي, وأية طاقات الزهور تزين قبر هذا المناضل الكردي السوري الذي استبسل في تقديم دمه فداءً لكرامة سوريا التي صار أخوانه الكرد فيها ضيوفاً ثقلاء غير مرغوبين بهم لا بل, وإن حاولوا التكلم بلغتهم الأم سيتهمون بمحاولة اقتطاع جزء من سورية, وإلحاقها بدول الجوار, وهي أسهل تهمة توجه إلى الناشطين الكرد, أو إثارة القلاقل مع دولة مجاورة, وكان هنانو قادراً على إعلان دولة كردية لكنه آبى ذلك.

توفيق نظام الدين الذي كان يشغل يوماً ما منصب رئيس أركان الجيش السوري يكافئ من قبل وطنه بأن تنزع منه جنسيته, وهويته, وينهى مسلسله في سورية بحلقة أخيرة بائسة. نعم توفيق نظام الدين أصبح من المجردين من الجنسية فأي بلد هذا, وأي تكريم لأحد أبطال الوطن, وقائداً عسكرياً شجاعاً يخرج في نهاية اللعبة مهاجر من دول الجوار, وضيف على هذا البلد الذي كان من المدافعين يوماً ما عن استقلاله, وجلاءه... كيف؟

سوريا التي كانت يوماً قياداتها من كل النسيج المكون لها فمن أصل ثلاثة عشر رئيساً فقط ثلاثة عرب هم أمين الحافظ, وحافظ الأسد, والرئيس الحالي بشار الأسد, ورؤساء حكوماتها كذلك الأمر أما الأن فحتى شرطي المرور لا يمكن أن يكون إلا عربياً, وبعثياً فأين أنت يا وطن, وأين أبناءك الآخرين الذين شاركوا العرب في بناء سوريا التي أخرجت الفرنسيين من أرضها, ولم تكن تميز بين عربي, أو كردي, وآخر أشوري, أو تركماني أسئلة أطرحها على طريقة فيصل القاسم على كل إنسان سوري, أو يرى نفسه سورياً, أو بحكم الولادة في سوريا هذا إذا اعتبرنا الأجانب, والمكتومين مهاجرين كيف ترون ذكرى الجلاء؟ وماذا يعني لكم عيد الجلاء؟ وهل تعلمون أي يوم, وفي أي سنة خرج الفرنسيون من بلدكم؟ أظن أن سبعة شعر مليوناً سورياً كلهم سيخطأون في تحديد التاريخ, أو الرقم الصحيح. هذا إذا عرفوا ماذا تعني كلمة الجلاء! إذاً من حقي أن أتمنى جلاءً جديداً جلاءً بكل معنى الكلمة لا جلاءً يعني فقط خروج الاستعمار من بلد قد يكون ذلك المستعمر قد مل الحياة فيها.