بسام القاضي

ما إن صدرت دراسة الاتحاد النسائي العام والجهات المشاركة معه حول العنف ضد المرأة في سورية، حتى انشغل الجميع بمضمون هذه الدراسة، خاصة كونها تشكل أقوى اعتراف رسمي حتى الآن بشيوع هذه الظاهرة وتفاقم خطرها من أوجه عدة، وتبيانها لجملة واسعة من الثغرات في دور الحكومة والمنظمات المدنية والمجتمع تجاه الحد من هذه الظاهرة. وهذا حق طبعاً، فقد تكون هي الدراسة الإحصائية الأهم في العقود الأخيرة حول هذه المشكلة. لكننا هنا نود أن نستغل الفرصة لنقول بضعة أشياء أخرى في هذا الصدد.

أشرنا في مكان آخر من هذا العدد إلى نواقص عدة وثغرات تعاني منها الدراسة، من حيث الشكل وتحديد المفاهيم وغيرها، لكن ذلك كله لا ينتقص من قيمة التأكيد مرة أخرى على الدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الحكومية المسماة (منظمات شعبية) إذا قررت تفعيل إمكانياتها. هذا أمر مهم جداً. فالاتحاد العام النسائي ليس فقط جهة قادرة بحكم كونه جزء من السلطة على عمل الكثير مما لا يستطيع المجتمع المدني عمله، بل أيضا هو أكبر جهة بإطلاق في هذا المجال. وحده الذي يمتلك عددا كبيرا نسبيا من الروابط والوحدات تنتشر على مساحة سورية، ووحده الذي يستطيع أن ينجز أعمالا على مستوى الوطن، وليست قطاعية فقط. كما أنه وحده تقريبا الذي يمتلك الإمكانيات المادية والفنية التي تسمح له أن لا يبقى في إطار الدراسات فقط، بل يمكنه أن يتحرك عمليا على ضوء هذه الدراسات.

وفي دراسته هذه أشار الاتحاد العام النسائي في المقدمة إلى "وإيمانا من الاتحاد العام النسائي بحق النساء فـي التحرر من العنف بأشكاله المختلفة وبضرورة تكاتف جهود الأفراد والجهات الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الوطنية والدولية الهادفة إلى حماية حقوق المرأة..". ولنكن صريحين في أن الاتحاد، شأنه في ذلك شأن أغلب الجهات الحكومية وشبه الحكومية، لا يفهم من (الجهات غير الرسمية والمنظمات الوطنية)، إلا تلك التي حازت على (صك) براءة من قانون الجمعيات سيئ الصيت، والذي بات وصمة عار على جبين بلد يقول بالتطور والحداثة في القرن الحادي والعشرين! بل حتى هذه التي حازت الصك تخضع لمعايير انتقائية. وهذا ما تجاوزه الزمن حقاً، وبات من الضروري على الاتحاد، كما على (المنظمات الشعبية) والحكومية الأخرى أن تعيد النظر بهذا الفهم وذاك الأسلوب. فسورية القرن الحادي والعشرين هي سورية المجتمع، وليست فقط سورية المنظمات (الموافق) عليها. وهذا أمر لم يعد يمكن التراجع عنه في عالم تغير كثيرا مغيرا في طريقه معادلات أساسية. وقد اعتقد الاتحاد لزمن طويل أن المنظمات والجهات العاملة في الإطار ذاته هي في موقع المجابهة معه، كما اعتقدت غيره من المنظمات الرسمية. رغم تأكيد هذه الجهات أن هذه المقولة غير صحيحة بإطلاق. وأن الانتقادات التي توجه للاتحاد في هذا الأمر أو ذاك، هي جزء من واجبنا جميعا بعضنا تجاه بعض، وليست انتقاصا ولا سبة لأحد. ولا بأس أن نشير هنا إلى تجربة الهيئة السورية لشؤون الأسرة، رغم أنها تجربة محكومة أيضاً بمعادلة كونها جزء من السلطة التنفيذية وخاضعة لمقتضيات الحال. إلا أن انفتاحها النسبي على جهات وجمعيات وأفراد المجتمع المدني لم يقدم فائدة لهذه الجهات وحسب، بل أيضا أغنى عمل الهيئية بتجربتها ورؤيتها وأفكارها..

إذا، نحن نرى أن تجاوز الحكومة، والمنظمات الحكومية وشبه الحكومية لواقع (قطيعتها) مع المجتمع المدني يعود بالضرر على الجميع، وعلى القضايا التي يعاني منها مجتمعنا أولا. والتعاون النقدي والفعال بين هذه الجهات جميعاً يغني الجميع، ويفتح إمكانية أوسع وأكثر عمقاً لدراسة حقيقية ومعالجة جدية لتلك القضايا.

ومن ناحية أخرى، نود أن نعيد الإشارة إلى مقولة تكاد تكون مسلمة. وهي أن تجاهل الأمر لا يحله ولا يلغيه من الوجود! بل لا يفعل سوى أن يفاقمه في الظل ويزيد من وطأته عبر تفاعل عناصره باتجاه مزيد من التأزيم. وظاهرة العنف ضد المرأة في سورية، خاصة العنف المنزلي، تقع في هذا الإطار.

فكل الإنكار الرسمي والإعلامي طويل الأمد لوجود هذه الظاهرة، والتشكيك بكل من يحاول تسليط الضوء عليها، لم يستطيع أن يخفف من وطأة هذه الظاهرة. والدراسة هذه هي تأكيد آخر على هذه الحقيقة. بل نتجرأ على القول بأن محددات ومعايير أكثر دقة كانت ستعطي نتائج أكثر سوءا مما وجدناه هنا. ومرة أخرى، الدقة هنا ليست تشهيرا ولا تفتيتا للمجتمع كما يحلو للبعض أن يقول. بل هي ضرورية ضرورة قصوى لوضع تصورات دقيقة عن الواقع، وبالتالي إمكانية وضع تصورات لحلول عملية مثمرة في هذا الجانب أو ذاك. وبرأينا أن الاهتمام الواسع بهذه الدراسة ليس ناجماً عن (اكتشاف) حقيقة هذا العنف لدى المهتمين. فهم يعرفونه جيداً. لكنه اهتمام نابع مما يفترض أن يترتب على اعتراف رسمي علني بوجود هذه الظاهرة. أي أنه اهتمام بما يفترض أن يكون: بداية إجراءات جدية وعملية، ميدانية واستراتيجية باتجاه التخلص من هذه الظاهرة.

وغني عن القول أن في الاستفادة من هذه الدراسة، وغيرها، مصلحة أساسية ليس للمرأة المعنفة وحسب، بل للمجتمع ككل. إذ بات من الواضح أن العلاقات المتساوية والمتكافئة هي وحدها القادرة على إطلاق أفراد وأسرة ومجتمع قادر على الوجود بفعالية في هذا العالم الجديد.