يختلط مفهوم المراسل التلفزيوني في سورية بمفهوم الناطق الاعلامي الرسمي، فلو تابعت المراسل السوري لأية محطة تلفزيونية لن تجد لديه ما يضيفه علي الخبر الذي تبثه وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا) عن أي حدث سوري، إلاّ في شرح الكلمات واعرابها وكأنك تتابع درساً في البلاغة والنحو، ومن كثرة الفأفأة والتأتأة التي يجيب بهما المراسل السوري علي الاسئلة التي يوجهها له مذيعو النشرات الاخبارية في المحطة التي يقدم رسالته لها، يخيّل للمشاهد (الذي لا يعرف الجو الانتحاري الذي يعمل به المراسل في سورية) بأن أحد أهم الشروط التي تطلبها المحطات الفضائية العربية لتوظيف مراسليها في سورية هو أن تكون لديهم مشكلة في النطق!

طبعاً الحقيقة غير ذلك، فالمراسل السوري الذي يقف أمام الكاميرا ليرد علي اسئلة مذيع النشرة الاخبارية لمحطته في بث مباشر، في موضوع مثل لقاء المحقق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري سيرج براميرتز بالرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع، تمر في ذهنه مئات الأفكار والهواجس التي عليه أن يحسب حسابها قبل أن يجيب علي السؤال الذي يوجه إليه، فهو يفكر برزق زوجته وأطفاله الذي عليه ألاّ يتنازل عنه في اجابته علي السؤال، ويعمل جهده علي ألاّ تتحول اجابته إلي تهمة يقضي بعدها عدة أشهر في السجن، ويتذكر المحاضرات الأكاديمية الاعلامية التي تلقاها في فروع المخابرات التي مرّ عليها في رحلة اعتماده كمراسل حول النقد الهدام والنقد البناء، وفي تلك اللحظة بالذات يتذكر أن فروع المخابرات هي أبنية طابقية، بعضها فوق الأرض، وبعضها الآخر ـ وهو الأهم ـ تحت الأرض، وتمر في ذهنه تجربة زميله محمد العبد الله مراسل قناة الجزيرة الأسبق في دمشق، الذي غطي المشكلات التي حدثت بين سكان مدينة السويداء السورية والبدو الذين يعيشون بجوارها، فكانت النتيجة أنه أصبح اليوم مراسلاً لقناة الجزيرة في دبي، ولا ينسي أن زميله الآخر عمار مصارع فقد عمله كمراسل لقناة الحرة في دمشق بعد تغطيته للاعتداء الذي تعرض له بعض المعارضين السوريين خلال اعتصامهم احتجاجاً علي قانون الطوارئ في ساحة المرجة بدمشق، ويتوجه من أعماق قلبه وبإيمان خالص إلي الله متضرعاً أن يتعطل بث القمر الصناعي، أو تنتهي مدة الحجز بسرعة، أو يقوم أسامة بن لادن بعملية تجعل القناة تقطع بثها عنه وتنتقل لمتابعة الحدث الجديد، ولو رأي أي مشاهد المراسل السوري لأية محطة تلفزيونية ينفخ بشكل خفي بوجه الكاميرا فعليه أن يكون متأكداً أن المراسل يقرأ في سرّه الآية القرآنية الكريمة (وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون) وينفخها في وجه المذيع الذي يسأله، كي يرتبك ويتشتت وتمر فترة البث المباشر بسلام، ولأن كل هذه الأفكار والهواجس تمر في عقل المراسل وهو يجيب علي السؤال يراه المشاهد يتأتئ ويفأفئ ، باحثاً عن الجواب المناسب الذي يرضي المخابرات العسكرية والسياسية والجوية والخارجية وأمن الدولة معاً وبكل فروعها، وهي معادلة يكاد يكون التوسط لدخول ابليس إلي الجنة أسهل منها!

ولو كان لأي مراسل تلفزيوني في سورية عقل انشتايني، يمكّنه من التفكير بكل الهواجس التي تمر في رأسه والاجابة علي السؤال المطروح عليه في نفس الوقت، فردة فعله الأولي عندما يسمع من مذيع النشرة كلمة استجواب في توصيف لقاء المحقق براميرتز بالرئيس الأسد ونائبه فاروق الشرع، تكاد تكون مطابقة لردة فعل رجل يقف علي الرصيف وفجأة دفع من الخلف إلي شارع تمر فيه سيارة مسرعة، ويكاد المشاهد يسمع من شاشة التلفزيون أصوات مكابح السيارة مختلطة بصراخ الرجل، وفي تلك اللحظة يتمني المراسل لو أن الله خلقه سعداناً بدل الانسان، ويصبح حلم حياته أن يصاب بذبحة قلبية مفاجئة، ولأن هاتين الأمنيتين ليستا في متناول يده يجد أمامه ثلاثة طرق عليه أن يختار احدها، فإما أن يقرر الانتحار فيمرر كلمة استجواب دون أن يرد عليها ويصححها، أو يتبع اسلوب الدكتورعماد فوزي الشعيبي في تمثل شخصية غوار الطوشة ويسخر منها ومن المذيع، واختياره لهذه الطريقة فيها مقامرة بعمله كله، أو يعيد توزيع أدوار المسلسل التلفزيوني القديم (دليلة والزيبق)، فيأخذ هو دور الزيبق بدلاً من حسن أبو شعيرة ويعطي المذيع الذي يوجه إليه الاسئلة دور دليلة بدلاً من مني واصف، وهي الطريقة التي غالباً ما يتبعها المراسلون في سورية، ولذلك تصبح اللقاءات المباشرة معهم في نشرات الأخبار أقرب إلي مطاردات (توم وجيري)، فالمذيع يسأل سؤالاً من الغرب، والمراسل يرد بجواب من الشرق، ولأن بعض المذيعين ساديين فهم يجلسون في استديوهاتهم المكيفة التي تبعد آلاف الكيلومترات عن مراكز فروع المخابرات في دمشق، ويتفننون في تقليب المراسل علي النار فيسألونه بشفة مقلوبة وشماتة ظاهرة: وما دمت تقول أن حضور المحقق الدولي براميرتز إلي دمشق كان هدفه اللقاء وليس الاستجواب، فهل تتوقع أن يسافر براميرتز ليلتقي بملك الأردن ورئيس وزراء اسرائيل والرئيس التركي باعتبار ان دولهم من الدول المحيطة بلبنان؟ فيجيب المراسل الذي يتحدث من حي دمشقي لا بد وأن توجد فيه مراكز ثلاثة فروع مخابرات علي الأقل، بمازوشية مقصودة أن لقاءات براميرتز في دمشق حسب وصف مصادر مطلعة كانت ايجابية، وبينما يركب المذيع سؤاله التالي من أكثر الكلمات سادية، يستغل المراسل الوقت للدعاء عليه في سره بإحدي دعوتين، فإما أن يصيبه الله بعلة لا يعرف طبيب لها دواء، أو أن يجعل آخرته مراسلاً تلفزيونياً في سورية!

وكل رسالة تلفزيونية من دمشق تفوق خطورتها خطورة خمسين سنة من التدخين، وسواء أتي براميرتز إلي دمشق أو لم يأت فإنه يسبب مشكلة للمراسل، وإذا قامت المعارضة باعتصام، أو أصدرت لجان احياء المجتمع المدني بياناً، أو أطلق المحامي أنور البني تصريحاً عن اعتقالات في دمشق، أو اغلقت جريدة، فإن المراسل التلفزيوني يضع يده علي قلبه خوفاً من تغطيته، ولو حاول الانفراد بخبر يخاف أن يحدث معه ماحدث مع مراسل جريدة النهار شعبان عبود (فيشحط) من بيته لينام ليلتين في ضيافة المخابرات ثم يحال إلي القضاء، ولو سرّب له مصدر أمني خبراً فسيخاف من مصدر أمني آخر يود شد أذن المصدر الأمني مسرّب الخبر فيسجن المراسل، ويتذكر ماحدث مع مراسل جريدة الحياة ابراهيم حميدي، وحتي لو بدأ المراسل يومه بشرب القهوة في الأمن السياسي، ثم أفطر في الأمن الخارجي، وتغدي في أمن الدولة وتناول العشاء في الأمن العسكري، فإن ذلك لا يحميه إذا رفت عينه ولو بدون قصد في جزء ما من رسالته التلفزيونية، وخطر علي بال مرجع ما أن يفهمها علي انها نوع من الاستهتار، وعليه مراعاة علامات الترقيم، فقد يحاسب علي الفاصلة، ويعاقب علي النقطة، ويؤنب علي إشارة الاستفهام، وتمسح به الأرض بسبب إشارة تعجب، ويستدعي للتحقيق بسبب فاصلة منقوطة.

ولهذه الأسباب تحول المراسل التلفزيوني في سورية من رجل يستيقظ كل صباح ليبل سبابته بريقه، ثم يرفعها في الهواء، ليعرف اتجاه الريح السياسية التي عليه أن يبث رسالته معها، بهامش صغير يظنه متاحاً للحركة، إلي رجل يكتفي بأخبار وكالة (سانا) الرسمية، ويأخذ دور الناطق الرسمي للحكومة، وبسبب هذا التحول لم تعد قناة الجزيرة صهيونية في المفهوم السوري، وعاد اسم قناة العربية إليها بعد أن سميت سورياً لبعض الوقت بالعبرية، وصار المشاهد يظن وهو يتابع أي خبر سوري علي أية فضائية عربية أنه يشاهد التلفزيون السوري!!