تتزايد في أحاديث اللبنانيين نبرة الخوف من الغد كلما أوهِموا بتعاظم أهمية بلدهم الصغير دولياً. لقد أدركوا، بالتجربة، أن المبالغة في أهمية لبنان العالمية ليست لخير شعبه الذي تتركه أكثرية شبابه المؤهل للبحث عن أي فرصة عمل ودخل يقيم الأود في أي مكان من هذه الدنيا الفسيحة.

ومع أن اللبنانيين يهوون في زجلياتهم المبالغة، ومع أنهم معتدون بأنفسهم أيما اعتداد وربما افترضوا أن واحدهم (أو واحدتهم) أرقى وأكثر ذكاء وأعظم دهاء وأقدر من أي مثيل له في الدنيا أوسع علماً وأكثر خبرة وأقل ادعاء منه.

... إلا أن فرديتهم الطاغية تتجاوز مشاعرهم الوطنية، فلبنان مهم لأنهم منه وليسوا مهمين لأنهم من لبنان، فإذا خرجوا منه أخذوا أهميتهم معهم!

في أي حال فليس مما يطمئن هذا الشعب الذي كان منسياً على امتداد خمسة عشر عاماً أو يزيد، أن يصبح فجأة مركز اهتمام العالم ممثلاً بالإدارة الأميركية ومعها فرنسا وعبرهما مجلس الأمن الدولي..

كذلك فليس مما يطمئن هذا الشعب الباحث عن الأمن والأمان أن تصبح مشكلاته الداخلية، وأبرزها علاقاته مع سوريا، موضع العناية الفائقة <لإمبراطور الكون> الرئيس الأميركي جورج .و. بوش.

و<إمبراطور الكون> ليست تهمة، إنها الصفة الفعلية لجورج بوش بحكم ممارساته اليومية، فلم يحدث في التاريخ أن كان لأي <رئيس>، بمن في ذلك الرئيس الأميركي صلاحية تحديد الخطأ والصح ومن ثم القرار في أي حدث يقع في أي مكان في الدنيا.

لقد أسقطت الإدارة الأميركية الحدود بين الدول والقارات، فجعلت شؤون العالم أجمع من <محلياتها>، ملغية بالتالي الطابع المحلي عن أي حدث أو تطور أو أمر يقع في القارات كافة وفي الشؤون كافة.

ومع اعتداد اللبنانيين بالحركة السياسية النشطة التي تفجرت اثر جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وارتفاع الأصوات المطالبة بجلاء <الاستعمار> السوري، والسيادة الكاملة والتحرر المطلق من <وصاية النظام الأمني اللبناني السوري المشترك>، إلا أنهم يشتبهون في الأسباب الحقيقية لهذا الدعم الأميركي المفتوح ل<ثورة الأرز> التي تعاني الآن من أورامها الناجمة عن نفخها المستمر.

كذلك فهم يشتبهون في <تحريض> رئيس الحكومة في لبنان على لعب دور <رئيس الجمهورية>، بمعزل عن رأيهم في كل من الرجلين، لأن الأمر يتصل بما يتجاوز الدستور إلى الحساسيات المرضية في كل ما من شأنه أن يمس <حقوق الطوائف> وتوازنات المواقع في ما بينها..

ثم إنهم يتخوّفون من آثار هذا الاهتمام الأميركي المبالَغ به بشؤونهم الداخلية، والتي صارت موضع متابعة دقيقة وتفصيلية وتعليقات توجيهات يومية يتناوب على إصدارها الرئيس جورج بوش والناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ووزيرة الخارجية ومساعدوها الكثر ووزير الدفاع وأركانه الذين تنبع أهميتهم من صمتهم..

ولعل أكثر ما يخيفهم أن معظم مطالب الإدارة الأميركية من لبنان تتخذ طابع الحرب على سوريا، ثم تقنَّن في صيغة قرارات لمجلس الأمن الدولي ستحكم المستقبل مع البلد الشقيق والجار، والذي كلما تدخل <الخارج> في العلاقات بين الدولتين المتكاملتين بالمصالح بعد التاريخ والجغرافيا وصلات النسب والقربى أبعد كلاً منهما عن الأخرى إلى حدود <المواجهة>.

وليست العلاقات اللبنانية السورية من <المحليات> الأميركية، ولا يجوز أن تكون بيروت مرتكزاً لما تنويه أو تخطط له إدارة جورج بوش للمنطقة برمتها من مضيق جبل طارق إلى مضيق هرمز.

إن مراجعة بسيطة لمجمل القرارات الصادرة أو التي ستصدر حول لبنان وسوريا من واشنطن مباشرة أو عبر مجلس الأمن الدولي، من شأنها أن تعطل أية مبادرة عربية محتملة لإصلاح ذات البين بين هذين الشقيقين اللذين أخذتهما التجربة المرة والتي انتهت بفاجعة إلى الاختلاف الشديد، فكادا ينسيان البديهيات أو يتجاوزانها إلى الغلط الفادح.

ربما لهذا نفترض أن علينا التنبّه إلى <الشبكة> التي نُدفع إليها، والتي قد تأخذ لبنان وسوريا إلى كارثة أو ربما كوارث جديدة.