<المحاور الإقليمية> ترفٌ لا يأخذه النظام في سوريا على محمل الجِد، تماماَ مثلما أن هذا النظام اذ يُدمن اللغة الخشبية ويعتزم تكرارها على مسامعنا الى ما لا نهاية، محظراً التفريط بمفردة من مفرداتها، فانه مع ذلك، لا يأخذ هذه اللغة الخشبية ولا أي مفردة من مفرداتها على محمل الجِد. الحكمة الأثيرة التي يسير هذا النظام على هديها، هي أن من يريد أن يحكم أبداً في بلد مثل سوريا، وفي سياق تاريخي مثل نهايات الحرب الباردة وما بعدها، فعليه أن يؤمّن مقومات استقرار حكمه يوماً بيوم: من الأوراق ما تعطى له مباشرة في حيثية معينة. ومن الأغراض ما يلتقطها ويستجمعها هذا النظام بعد أن يكون قد تخلى عنها أصحابها، فيقوم النظام السوري بتأهيلها وتلميعها من جديد.

ما أبعد مثل هذا النظام الحرفي اذاً عن فكرة <المحور الايراني السوري>. من دمشق، يبدو التخصيب الايراني لليورانيوم أشبه بقصة من قصص الخيال العلمي. ايران دولة تجمع بين حد تتفوق فيه على سوريا وحد تكون فيه الخيارات المعتمدة في سوريا أرحم للعالمين. في ايران دولة مزودة بمؤسسة مزمنة وآلية غير اعتباطية في صنع القرار. الا أن ايران هذه هي مع ذلك دولة جامحة، والتناقض بين المؤسساتية والجموح هو توتر يتحكم بالجمهورية الاسلامية منذ قيامها، وصولاً الى الأزمة النووية الراهنة.

أما في سوريا فلا مؤسساتية تنتهج في طريقة صنع القرار، وقد يكون النظام مفرطاً في سياسات هدر الوقت ووأد كل شبهة اصلاح، الا أنه مع ذلك نظام لا يفقه للجموح معنى. انه نظام يعيش على <القنص> لا على <الجموح>. ولا قيامة لمحور ناشط أو جدي يجمع بين نظام يعيش على القنص مثلما الحال في سوريا، وآخر هو بحد ذاته مؤسسة للجموح، كحال ايران.

مع ذلك، تفرّدت سوريا بين كل الدول العربية لجهة علاقتها مع ايران منذ فجر الثورة الاسلامية والى اليوم. وكان <البعث السوري> نشازاً يوم عقّم صدام حسين العروبة من مركبها التقدمي الآفرو آسيوي الذي خبرناه مع الحقبة الناصرية، وأعادها إلى المركّب الأكثر خساسة، بتعريف العروبة بالضد من الأعجمية والشعوبية، وجارته في ذلك أنظمة <التعاون العربي>، بل بايعته الجماهير من المحيط الى الخليج. بيد أن النظام في سوريا لم يتطلع الى ايران يوماً كشريكة يعتمد عليها في السياسة الاقليمية، ومنذ بضع سنوات فقط كان مرشد الثورة الامام الخامنئي يوجه أكثر من اللوم لسوريا عشية مفاوضات شيبرزتاون والصورة اليتيمة لايهود باراك وفاروق الشرع يتوسطهما كلينتون.

بطبيعة الحال، تقود أجواء <الحرب على الارهاب> الدول التي توصف <بالمارقة> الى التقارب في ما بينها انطلاقاً من شعور اجمالي بأنها تقاسي المصير نفسه، وبأن أميركا ستأتي على المارقين جميعاً، الواحد بعد الآخر. الا أن هذا الشعور الاجمالي الذي يحمل على الانقباض والاحتراز لا يسمح بقيام أي محور اقليمي بين المحاصرين أو المهددين أميركياً وغربياً. فمثل هذا الشعور يبقى مجرداً قياساً بمسلك آخر يندفع فيه كل نظام متهم بالمروق، لأن ينفذ بجلده.

شكلت ليبيا الحالة المثالية لنظام وضع على اللائحة السوداء الأميركية وقطع أشواطاً لا بأس فيها كي ينفذ بجلده. لا يسمح الوضع الاقليمي لسوريا بمثل هذا النفاذ على طول الخط. الا أنه في كل لحظة يمكن فيها للنظام السوري أن ينفذ بجلده نجده لا يقصّر، من دون أن يستولد أبداً الطريقة الليبية، ومن دون أن يبالي كثيراً بالانتماء الى محور دون آخر، فهو لا يأخذ على محمل الجد خطاب <المحورة> لا من جهة ايران، ولا من جهة مصر والسعودية.

ما يشغل بال هذا النظام كامن في هامش آخر. انه نظام متعهد لألعاب أمنية تقتات من النزاعات الاقليمية ولا ترتهن بهذه النزاعات.

الخشية أن تقدم اللحظة المقبلة مثالاً على ما نقول. ففي وضع تتجه فيه أنظار العالم شطر ايران وخصوبتها النووية، يستهلك النظام في سوريا رأساً، رأس معارض أو اثنين في <الداخل>، أو يتخلص من وليد جنبلاط. رمزية المطالبة الرسمية بتسليمه مخفوراً الى <العدالة> السورية توحي بهذه الوجهة. عندما يتلاقى جورج بوش وأحمدي نجاد في <التضاد الاستراتيجي> بينهما، لن تكون <الاستراتيجية السورية> منشغلة لا بالنووي ولا بالنفط ولا بآسيا الوسطى وبحر قزوين، وانما بتلقين قصر المختارة الدرس اياه.?