لم يكن الاستقبال المميز الذي حظي به الوفد اللبناني في البيت الأبيض، مريحاً لرئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، خصوصاً ان المعاملة الاستثنائية التي لقيها من الرئيس جورج بوش تجاوزت كل قيود البروتوكول الصارم، الأمر الذي دفع الى التساؤل عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الاحتفال السياسي.

التفسير المنطقي الذي رجح لدى أعضاء الوفد هو ان الحفاوة اللافتة تدل على عمق الاحراج الذي تعانيه الولايات المتحدة في المنطقة. وهذا ما دفع الإدارة الاميركية الى إظهار تعاطفها مع النموذج الديموقراطي الذي يقدمه لبنان وسط دول الشرق الأوسط. وواضح من اسلوب المعاملة الخاصة ان بوش أراد تمييز دوره عن أدوار الادارات السابقة التي استخدمت لبنان طوال ثلاثين سنة كساحة عزل ووقاية بهدف امتصاص صدمات النزاع السوري - الاسرائيلي. وقد كررت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس هذا الموقف مؤكدة في حديثها مع أعضاء الوفد، ان لبنان يستأهل ان يكون وطناً نهائياً، كما ينص دستوره، وان ينعم بحرية السيادة وفرص الاستقلال الناجز.

ولقد ازدادت دهشة السنيورة عندما فاجأه جورج بوش بإيكال مهمة صعبة عجز عن تحقيقها كل زعماء العالم. سأله، وهو يتحدث عن الأزمة مع ايران، ما إذا كان باستطاعته المساعدة على ايجاد حل مستساغ لهذه المعضلة. وعندما رأى علامات الارتباك والاستغراب تنتشر فوق وجهه «البوكري»، ابتسم بوش معتذراً، وأكمل عبارته بالقول ان المسألة لا تستدعي ايجاد حل عاجل. ثم اقترح على ضيفه الاتصال به ولو بعد فترة طويلة، إذا ما لاحت له في الافق بوادر حل عملي.

ويبدو ان هذا الاقتراح أقلق السنيورة لكونه سيقحمه في مسألة لا تخصه. واجتهد أحد وزراء الوفد ليقدم تفسيره في هذا الشأن، معتبراً ان الرئيس الاميركي لم يطرح سؤاله من فراغ، وانما أوحى لضيفه باحتمال تدخله مع ايران بواسطة «حزب الله». وتجاهل السنيورة هذا السؤال لأنه لم يقتنع بجديته، أو أنه رأى فيه فخاً لتجاوز دور سورية. وهذا ما لمحت اليه كوندوليزا رايس عندما أثارت خلال مأدبة الغداء دور لبنان على الصعيد الاقليمي. ولقد ناقشها وزير العدل شارل رزق حول هذه المسألة، وأخبرها ان لبنان كان يضيع توازنه الداخلي عندما يسمح لمشاكل المنطقة بأن تنعكس على واقعه، أو عندما كان يقحم نفسه في النزاعات الاقليمية. وأعطى الوزير رزق أمثلة مختلفة لدعم حجته مبيناً عوامل الاخطار المهددة للصيغة اللبنانية في حال تجاهل المسؤولون هذه الحقيقة وسمحوا بأن يتحول الوطن الصغير الى ساحة كبيرة للصراع.

عقب الاستماع الى النقاش، قدم الرئيس بوش مداخلة سريعة اختصرها بالقول ان النظام الانتخابي الصحيح يؤمن صيغة الانصهار الوطني لكل الطوائف. ولكنه اشترط اعتماد نظام الحزبين بهدف ضبط الاختلافات السياسية ضمن مفهوم ديموقراطي غير طائفي يؤمن فكرة العيش المشترك، كما يؤمن للدولة الاستقرار والاستمرار.

المراقبون الديبلوماسيون الذين تتبعوا مراحل زيارة الوفد اللبناني لواشنطن ونيويورك، لاحظوا حرص فؤاد السنيورة على الابتعاد عن حقل الألغام وعن كل القضايا التي تسبب له الاحراج حول طاولة الحوار. خصوصاً ان الادارة الاميركية لا تخفي اهتمامها بضرورة منع الضغوط السرية من التأثير على مسار العملية السياسية في لبنان. ولقد عبرت واشنطن وباريس عن قلقهما من اتساع حجم الموقف السلبي الذي تمارسه دمشق ضد طروحات ممثلي قوى 14 آذار بحيث يفشل المتحاورون في تحقيق تسوية مرضية لكل الاحزاب والفئات. ويرى بوش وشيراك ان تدخل سورية المتواصل في الشؤون الداخلية اللبنانية سيحدث تصدعاً ينسف الحوار من جهة ويهيئ الأجواء لأزمة حكم شبيهة بالأزمات التي عصفت بحكومة رشيد كرامي في عهد شارل حلو، أو بحكومة سليم الحص في عهد أمين الجميل. ومن الواضح ان فشل المتحاورين في ايجاد حلول لأزمة رئاسة الجمهورية او استعادة العلاقات الطبيعية مع دمشق، أو حتى تنفيذ بعض المطالب التي يعرضها السنيورة كمطلب ترسيم الحدود واعلان لبنانية مزراع شبعا... هذا الفشل يمهد لاستقالة حكومة السنيورة في حال انقطع الحوار أو تعثرت مسيرته.

وقد عبرت واشنطن وباريس عن تخوفهما من اتساع حجم الموقف السلبي الذي تمارسه دمشق ضد فريق 14 آذار، خصوصاً بعدما تحول مؤتمر الحوار الى آلية سياسية ضرورية لعمل مجلس الوزراء. ومعنى هذا أن توقفه عن ضخ روح التفاؤل سيعطل مسؤولية الحكومة ويمنعها من أن تبقى المحرك الأساسي لعملية التسوية التوافقية. أي التسوية التي عطلت إرادة الأكثرية البرلمانية التي تمثلها قوى 14 آذار، وحالت دون استقالة رئيس الجمهورية اميل لحود.

عقب الانتصار الذي حققته سورية عن طريق ابقاء لحود في الحكم، اكتشفت أن الفاصل الزمني الطويل سيمنحها الفرصة الكافية لتمزيق صفوف المعارضة وإعادة تجميع صفوف حلفائها المشرذمين. وكان لا بد من توظيف عودة الرئيس لحود وإبرازه مجدداً كشخصية وطنية مؤهلة لإكمال فترة التمديد. وقد ساعدها لحود في عرض مظاهر التمديد عن طريق تجديد أدائه وتلميع صورته القديمة. وراح يستقبل مؤيديه من خصوم 14 آذار، مثل النائب اسماعيل سكرية والوزير السابق عاصم قانصوه والوزير السابق وئام وهاب. وهاجم الثلاثة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة بسبب تصريحه حول تهديد بشار الأسد لرفيق الحريري. كما خص قانصوه الحكومة بالانتقاد اللاذع بسبب نفاقها السياسي، على اعتبار أنها تقاطع الرئيس لحود وتدعو الى اسقاطه، ولكنها تجتمع تحت اشرافه عملاً بأحكام الدستور.

أما الرئيس لحود فقد دافع عن الجنرالات الموقوفين، ووصف فكرة دمج المقاومة بالجيش النظامي بأنها «بدعة تعني انهيار المقاومة والجيش معاً». وعلقت المعارضة على هذا التبرير بالقول إنه موقف ظالم للجيش اللبناني المشكّل أصلاً من مقاتلي الأحزاب، ولدوره الأساسي كقوة معدة لحماية الحدود. ورأت في هذا الاخراج غير المقنع، دفاعاً عن موقفه السياسي المناقض لقرار 1559، وما يمثله اتفاق الطائف من دعوة لبسط سيادة الدولة على كل أراضيها.

انسجاماً مع أسلوب التغيير، انتقلت سورية من وضع المدافع الى وضع المهاجم. واستنفرت من أجل تعزيز هذا التحول كل وسائلها الديبلوماسية والاعلامية. ثم نقلت هذا المنحى الى حلفائها اللبنانيين الذين بادروا الى تشكيل تجمع تحت مظلة «الجبهة الوطنية» التي ولدت في الشمال بواسطة الرئيس عمر كرامي والنائب السابق سليمان فرنجية. وقد انضم إليها كل من: طلال ارسلان وعبدالرحيم مراد والبير منصور وايلي الفرزلي واسامة سعد ووئام وهاب. وهناك اسماء كثيرة مرشحة للدخول في هذا التجمع الهادف، ولكن أصحابها مترددون في اتخاذ موقف حاسم بانتظار ما ستسفر عنه التطورات. ويرى المراقبون أن التكتل المؤيد من سورية اختار عمر كرامي لخلافة السنيورة الذي تقرر اسقاطه عبر معركة اقتصادية شرسة ربما يستخدم فيها الشارع الناقم مثلما استخدم سنة 1992 لاسقاط عمر كرامي والمجيء بالحريري. ويتوقع النواب المحايدون أن يطلق السيد حسن نصرالله والعماد ميشال عون، رصاصة الرحمة على مؤتمر الحوار المقبل، لأن المتحاورين فشلوا في الاتفاق على كل النقاط المطروحة. وربما يحاول رئيس المجلس نبيه بري انقاذ ما يمكن انقاذه خلال الجولة المقبلة، لأن انقطاع الحوار يولد البلبلة والفوضى والنزاع.

بعد انقاذ الرئيس اميل لحود، وتشكيل «الجبهة الوطنية»، صوبت سورية «مدفعيتها» الإعلامية الثقيلة باتجاه وليد جنبلاط على أمل تهميشه أو تهشيمه، ذلك أنها ترى في موقفه المعارض تحريضاً ضد النظام القائم وتشجيعاً لاعدائه على العصيان والتمرد. وبناء على كلام جنبلاط في الندوة التي دعته إليها «مؤسسة بروكنز» في واشنطن (6 آذار/ مارس الماضي) قرر القضاء العسكري السوري توجيه مذكرة لمثول الزعيم الدرزي أمام المحكمة خلال أسبوع بتهمة «التحريض ضد سورية». وقبل ان تقول الدولة اللبنانية رأيها بهذا القرار الذي يتطلب رفع الحصانة عنه، كلف جنبلاط مجموعة محامين لتحريك دعوى اغتيال والده، خصوصاً أنه يعرف الجهة التي أمرت بالقتل والعناصر التي نفذت. وكي لا تتفاعل هذه القضية وتؤثر على مؤتمر الحوار، أسرع الرئيسان بري والسنيورة لضبط ردود الفعل خوفاً من توسيع حلقة النزاع. وبوشرت الاتصالات مع القيادات الدرزية من أجل احتواء نتائج اللقاء الذي ضم خصوم جنبلاط مثل الشيخ بهجت غيث والأمير طلال ارسلان ووئام وهاب ومحمود عبدالخالق وفيصل الداود.

في زحمة هذه المعارك السياسية المحلية ينتقل فؤاد السنيورة الى لندن يوم الاثنين المقبل يرافقه وزير الخارجية فوزي صلوخ ووزير المال جهاد ازعور ووزير الاقتصاد سامي حداد. ويستنتج من تشكيلة أعضاء الوفد ان الشأن الاقتصادي سيكون هو المهيمن على محادثاته مع وزير المال غوردون براون المعروف بقسوته في زيادة الضرائب، والمرشح ايضاً لخلافة توني بلير. ومن المؤكد ان السنيورة يشعر دائماً بالحنين الى لندن التي أمضى فيها أجمل أيام حياته. فإلى جانب الفترة التي تدرب خلالها في البنك المركزي البريطاني، تولى الاشراف أواخر الثمانينات على عملية شراء بنك «تايمز تراست» من ميشال خلاط قبل ان يفاوض رفيق الحريري لشراء بنك «ميديترانيه». وخلال مرحلة زادت على الست سنوات، اختار السنيورة مع عائلته محلة «كامبدن هيل» لتكون موقع سكنه ومنطلق عمله مع الحريري في كل أوروبا.

منتصف سنة 2003 قام الحريري بآخر زيارة خاصة له الى بريطانيا وايرلندا يرافقه وزير المال فؤاد السنيورة، وعندما التقى رئيس الوزراء توني بلير، ركز اهتمامه على إقناعه بأهمية دور سورية في المنطقة، وبضرورة التوسط مع الادارة الاميركية بهدف ازالة ضغوطها السياسية والاقتصادية عن دمشق. وكان الشاهد على هذه «المرافعة» السياسية فؤاد السنيورة، الذي سيذكر بالتأكيد توني بلير بآخر عبارات قالها له الحريري في آخر زيارة له لبريطانيا.

ومن المتوقع ان يوجه اليه بلير السؤال ذاته الذي وجهه اليه جورج بوش عندما زار البيت الأبيض حول الجهة التي يعتقد انها اغتالت الحريري.