ثمّة تساؤل مطروح حول قدرة اللبنانيين في عدم تفجير الحوار ومحاولة الوصول إلى لغة توفيقية إزاء الملفات المطروحة للبحث، فالوضع بلا شك هو متأزّم، والأجواء مليئة بالاحتقان، لكن ثمّة ضوءاً في نهاية النفق، رغم ما تمّ تسريبه من معلومات بشأن الخلافات الحادة في ملف أزمة رئاسة الجمهورية، فهنالك ملفات لا تقل أهمية إن لم تكن أكثر حضوراً وتأثيراً في مسار الحوار، كمعالجة السلاح الفلسطيني ومزارع شبعا والعلاقات مع سوريا.

على أن المنطقة تعيش مرحلة حرجة، وكأن هنالك منعطفاً خطيراً لا بالإمكان الفرار منه، لا سيما ما يتعلق بمستقبل العلاقة السورية ـ اللبنانية، مما يجعل بازار التنبّؤات مفتوحاً، فهنالك مَن يرى أن لبنان في طريقه إلى التدويل، خاصة أنه محكوم بقرارات دولية فضلاً عن مطالبة أصوات مؤثرة بتفعيله كونه يحقق الحماية والدعم المعنوي، وأن سوريا ستواجه مصيراً مشابهاً لما حدث في العراق لعدم تعاونها وتدخلها في شؤون الآخرين.

على أي حال، هذه طروحات ليست بالضرورة تعكس الحقيقة، لكن المهم قوله هنا، إن لبنان بات مفتوحاً لكل القوى داخلية كانت أم خارجية، وبات ملعباً ينتصر فيه مَن يمتلك أدوات اللعبة، وهم كُثر مما يزيد من صعوبتها، وبالتالي تعقيدها. نعم هنالك أزمة حقيقية في لبنان، سواء للحكومة أو في ما يتعلق بالعلاقة مع سوريا، كما أن هنالك محاولات خفية لجر إسرائيل للدخول في المعادلة، ولعل إطلاق الصواريخ منذ شهرين رسالة واضحة لتأزيم الموقف وإحراج لبنان، ولو صحت الأنباء عن وصول >القاعدة< إلى لبنان، فهذا يعني أن المشهد اللبناني سيتعرض لتداعيات لا يمكن التنبّؤ بها في الوقت الراهن، لا سيما مع ازدياد اللاعبين في الساحة وتقاطع المصالح لهذا الطرف أو ذاك. وهذا ما جعل المناخ السياسي ساخناً إلى حدّ كبير، ولغة التهديد والاعتراضات هي سِمة العملية السياسية الراهنة. إن لبّ الصراع الآن، كما يبدو، ليس ملف التحقيق في اغتيال الشهيد الحريري، بل هو قرار (1559)، لا سيما في شقّه المرتبط بنزع أسلحة الميليشيات والمخيمات، لذا تجد >حزب الله< يتخوف أن تندفع القوى السياسية (الأكثرية) لتطبيق ما تبقى من القرار، وهذا يعني إضعاف دور >حزب الله< الداخلي، ومما يحقق اختلال المعادلة التي ظلت على السطح لثلاثة عقود ساهمت فيها سوريا بالحد الأكبر لترسيخها على أرض الواقع. ومن هنا، يبقى تقارب >حزب الله< مع العماد ميشيل عون مفهوماً لتحقيق معادلة مواجهة ما بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار، وهذا ما يفسر مطالبة عون باستقالة الحكومة رداً على المطالبة باستقالة لحود. وهنا تكمن الإشكالية، فإسقاط لحود يحتاج إلى أكثرية ثلثي عدد النواب، في حين إسقاط الحكومة يحتاج إلى أكثرية لحجب الثقة أو استقالة ثلث عدد الوزراء لكي تعتبر الحكومة مستقيلة. على أن الحقيقة الماثلة تشير إلى أن ثمّة فئة تكرّس عدم استقرار لبنان، وتحاول قدر الإمكان تعطيل الأمور وشل الحكومة وعدم تمكينها من القيام بأعمالها، لتفرض عليها الأمر الواقع، فترحل لتحل محلها مَن يحقق مصالحها ومصالح مَن يدعمها في الخلف، وهذا يعني عودة الوصاية السورية السياسية للبنان وإن خرجت منه عسكرياً. وكأن هذه الفئة تطالب بتسوية معينة لتحفظ مصالحها، وإلاّ فالمعاناة ومسلسل الاغتيالات والفوضى الأمنية والصراعات الداخلية ستستمر لا محالة!. إذن، ثمّة ضرورة للتدخل في الشأن اللبناني، وقد استشعر العرب بخطورة الوضع، لكن ما هو الحل؟!.

أولا: على سوريا أن تتخلى عن تشدّدها وأن تُغيّر سلوكها وأن تتعامل مع لغة العصر وتكف عن التدخل في الشأنين العراقي واللبناني، وترتهن للعقلانية وتتخلص من عقدة السعي لدور إقليمي في المنطقة.

ثانيا: لبنان في حاجة إلى قراءة جديدة، فرغم أخطاء السوريين في حق لبنان، إلا أن الدولتين في حاجة بعضهما بعضا، فمنطق العداوة لن يفيد أحداً، وإعادة الثقة والبناء ما بين الدولتين بات ضرورة وليس ترفاً، فالاعتدال في النظرة لمستوى العلاقة يلعب دوراً مهماً في تجسير الهوّة، لأن التطابق ليس مطلوباً ولا ينجح في الغالب على المدى الطويل، بل التوافق والحوار واختلاف وجهات النظر، أدوات صحية ومهمة من أجل تأسيس أرضية لإعادة البناء المشترك لمصلحة البلدين أولاً قبل دول الجوار.

على سوريا أن تبادر بحسن النيات وإعادة بناء الثقة وتتعامل مع لبنان كدولة مستقلة، فالمعطيات الراهنة تقتضي تعاملاً مختلفاً، وإلا دفعت ثمناً كبيراً قد تندم عليه لاحقاً، ويمكن لها الاستفادة من التحرك العربي لإعطاء صيغة لتحسين العلاقات مع لبنان قبل أن تُفرض عليها من المجتمع الدولي. ولعل أهم الأمور تكمن في ترسيم الحدود والاعتراف بلبنانية مزارع شبعا، ليتم اعتمادها دولياً منطقة لبنانية محتلة، كما أن التمثيل الدبلوماسي مع لبنان شرط رئيسي لعلاقات متوازنة ما بين البلدين، فليس من المعقول أن يكون لبنان عضواً في هيئة الأمم المتحدة، وتجد دولة جارة له لا تعترف باستقلاليته.

إن عدم القيام بهذه المسائل وتفعيلها، سيؤدي إلى التأجيج، وإلى تفجير الوضع الداخلي لكلا البلدين، وإلى فتح بوابات للتدخل الأجنبي بكل ما تعنيه هذه من حقيقة مؤلمة. إن استمرار الوضع على ما هو عليه، يعني في ما يعني، أن لبنان متجه إلى تكريس التدويل وسيبقى ساحة للتجاذبات والاستقطابات وما لذلك من تداعيات على المنطقة، في ما يتقارب السيناريو العراقي ليحل في سوريا، معلناً ربما مرحلة ورسماً بيانياً جديداً، وعلى أي حال الأيام حبلى كما يُقال!.