لا يستطيع النظام السوري حلّ مشكلته بمواصلة عملية الهروب الى أمام التي لا يمكن أن تخدم سوريا والشعب السوري في أي شكل من الأشكال. على نقيض ذلك، ستزيد هذه العملية عمق الأزمة التي يعانيها النظام والتي كان أفضل تعبير عنها جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بهدف واضح وحيد هو الأمساك بالورقة اللبنانية وكأن هذه الورقة تمثّل خشبة الخلاص للنظام.

آن الأوان كي يسمع النظام في سوريا كلاماً من نوع آخر. خلاصة هذا الكلام أن ما يحمي النظام وما يحمي سوريا والسوريين تفكير مختلف يستند الى القيام بعملية نقد للذات في العمق بدل الأستمرار في عملية الهروب الى أمام. وبداية عملية النقد تكون بالأعتراف بأن المنطقة تغيّرت وأن موازين القوى فيها تغيّرت وأن ليس في أمكان سوريا لعب الأدوار التي كانت تلعبها في الماضي. ومن أجل فهم هذه الفكرة يمكن التوقف عند محطات معيّنة بغية الوصول الى نتيجة فحواها أن الأساءة الى لبنان وضرب الاستقرار فيه لا يخدم سوريا بمقدار ما أنه يضرّها وأن الأمساك بالورقة اللبنانية لا يقدّم في شيء. على العكس من ذلك أن الورقة اللبنانية ورقة مضرة لمن لا يريد أجراء حسابات دقيقة والتفكير في المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي وعقده.

كان النظام السوري في مرحلة ما ضرورة عربية، خصوصاً حين كان صدّام حسين في السلطة وقبل أن يرتكب الرئيس العراقي المخلوع حماقة العصر ويجتاح الكويت الدولة العربية الآمنة التي رفضت باستمرار أيذاء أحد أو الأعتداء على حقوق أحد خلافاً لما كان يعتقده صدّام. في المرحلة الممتدة من أواخر الستينات الى العام 1990 ، كان النظام السوري ضرورة عربية بغية أيجاد توازن معيّن مع نظام عراقي متهوّر لا علاقة له بالمعادلات الاقليمية والدولية، نظام يعتقد أن السياسة أقرب الى المقامرة من أي شيء آخر وأن العالم ليس قادراً على مواجهته أو ضبطه مادام قادراً على استخدام أوراقه التي بينها الإرهاب من أجل أبتزاز الآخرين. أمتلك الرئيس الراحل حافظ الأسد ما يكفي من الذكاء والدهاء لاستغلال نظام صدّام الى أبعد حدود. استغله عربيا واستغلّه اقليمياً حين وضع الأسس لتحالف مع إيران­ الخميني واستغلّه دولياً حين عرف كيف يُقدِّم نفسه للغرب، بما في ذلك أميركا، كرجل الدولة المعتدل الذي يلتزم الاتفاقات التي يوقّعها وكلّ كلمة تصدر عنه. كذلك استغلّ حافظ الأسد غباء صدّام في العلاقة بما كان يعرف بالقوة العظمى الأخرى في العالم، أي الاتحاد السوفياتي الذي لم تكن لديه ثقة كبيرة بالرئيس العراقي المخلوع، الذي كان بمثابة الرجل القوي في العراق منذ العام 1968، والذي كان ينقل بلاده من مغامرة الى أخرى من دون استشارة موسكو التي ارتبطت بمعاهدة صداقة وتعاون مع بغداد منذ العام 1972 .

كلّ شيء تغيّر في المنطقة. انهار نظام صدّام وصار الجيش الأميركي في العراق، لم يعد هناك وجود للاتحاد السوفياتي، لم تعد ثمة حاجة أميركية الى سوريا في لبنان كما كانت الحال في منتصف السبعينات حين وجد الدكتور هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي، إذذاك، أن الجيش السوري هو القوّة الوحيدة القادرة على ضبط المسلحّين الفلسطينيين في لبنان، بما في ذلك انفلات ياسر عرفات وانفلاشه العسكري على الأراضي اللبنانية. والأهمّ من ذلك كلّه أن العلاقة بين النظامين في سوريا وإيران صارت مختلفة. لم تعد سوريا وسيطاً بين العرب وإيران بمقدار ما صارت أداة إيرانية لا أكثر ولا أقلّ، تماماً كما حال "حزب الله".

يفترض في من يقرأ هذه التحولات في دمشق، أن يعي أن مشكلة النظام السوري ليست مع لبنان، بل هي مع نفسه. إنه برفضه ترسيم الحدود في مزارع شبعا واستخدامه السلاح الفلسطيني في لبنان وإقامة سواتر ترابية داخل الأراضي اللبنانية في الشمال والبقاع واعتماده على أشخاص يخجل المرء من ذكر أسمائهم لإظهار أن لديه أزلامه في لبنان، يخدع نفسه أوّلاً. أنه يمارس سياسات عفا عنها الزمن في ظروف عربية ودولية وإقليمية ودولية، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها مختلفة جذرياً. هل هناك إفلاس سياسي أكبر من الإفلاس الذي يجعل النظام السوري يراهن على شخص مثل إميل لحّود في لبنان؟ ما الذي يستطيع إميل لحّود فعله غير الحقد على كل ما هو ناجح في لبنان؟ هل يمكن أن يكون الحقد على النجاح، أي على أشخاص مثل رفيق الحريري سياسة، يمكن القول منذ الآن ، إن في استطاعة النظام السوري الاستمرار في تخريب لبنان، إلاّ ان ذلك لن يعود على سوريا والسوريين بأي فائدة. على العكس من ذلك إن مثل هذه السياسة تمثّل الطريق الأقرب الى محاولة تقليد صدّام، الرجل الذي لم يدرك يوماً معنى القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. اعتاش النظام السوري في الماضي من قدرته على الاستفادة من نظام صدّام عبر الوقوف في وجهه والتصدي له. ما يفعله الآن أنه يسعى الى تقليده لا أكثر ولا أقلّ. يا لها من مفارقة ستجرّ الخراب على سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين!