يقول سياسي مخضرم إنه قبل ان يطرح سؤال عن مصير العلاقات بين لبنان وسوريا، وهل تعود الى وضعها الطبيعي، ينبغي ان يطرح سؤال آخر هو: هل سوريا مستعدة للتعامل مع لبنان كدولة سيدة حرة مستقلة ولا تظل تعتبره دولة تابعة لها وفي حاجة الى وصايتها، اذ لا يمكن ان تصبح العلاقات طبيعية، كما هي مع كل دولة، اذا ظلت سوريا تعتبر ان لبنان هو جزء منها او محافظة من محافظاتها؟

هذا السؤال طرحه على نفسه الزعيم الوطني الكبير رياض الصلح وكان يشغل باله عندما كان يسعى جاهدا الى توحيد موقف اللبنانيين من الاستقلال والتخلص من الانتداب الفرنسي، ويعطي التطمينات والضمانات لفئة مسيحية كي تقف في جبهة الاستقلال. وفيما كان رياض الصلح يعمل على تعزيز هذه الجبهة بالوحدة الوطنية وبابراز الطابع المميز للبنان، كان يشغله موقف سوريا، ويتساءل هل توافق بصدق على استقلال لبنان وتكون داعمة له، ام انها تضمر غير ما تعلن؟

وقد تبين من خلال الممارسة ان سوريا لا ترضى ان ترى لبنان سيدا حرا مستقلا، يتصرف دون مشورتها والعودة اليها في كل امر، لذلك اعترضت على إقدام لبنان منفردا على عقد الاتفاق النقدي مع فرنسا لأن العملة اللبنانية كان يغطيها الفرنك الفرنسي واتهمته بالعودة الى ممالأة فرنسا. ولم تمض اشهر حتى اضطرت سوريا الى عقد مثل هذا الاتفاق لأن وضع عملتها هو كوضع العملة اللبنانية.

وتكررت على مدى معظم العهود في لبنان تصرفات سوريا غير الودية، من اعلان رئيس حكومة سوريا خالد العظم القطيعة مع لبنان ومنع القمح عنه، الى تسليح لبنانيين في احداث عام 1958 لمواجهة الرئيس شمعون المتهم بالعمل للتجديد، الى انزال الخشبة مرات عدة عند المصنع تعبيرا كل مرة عن استياء من تصرف ما للحكومة اللبنانية، غير آخذة في الاعتبار ليس رابط العلاقات بين دولتين جارتين فحسب بل ايضا رابط الصداقة بين اهل الحكم في البلدين، خصوصا في عهد الرئيس سليمان فرنجيه.

ويضيف ان نظرة سوريا الى لبنان لم تتغير منذ ان نال كل من البلدين استقلاله، خصوصا بعدما طاب لسوريا ان تقيم وصايتها على لبنان مدة 30 سنة واعتادت التدخل في كل شاردة وواردة، حتى في الامور الصغيرة بحيث لم يكن الحكم في لبنان الخاضع لوصايتها يقطع خيطا من دون موافقتها، ومن الطبيعي ان يزعجها كثيرا التخلي عن وصايتها هذه، وان ترى لبنان قد استعاد سيادته واستقلاله وبات يتصرف بحرية.

لذلك، فان سوريا المعتادة ان تحكم لبنان منذ ان دخلت قواتها اليه، لم تكن ترضى عن كل من يطالبها بسحب هذه القوات، ولو تطبيقا لاتفاق الطائف، وتعتبره عدوا لها وتحاربه سياسيا وتقصيه عن النيابة والوزارة وعن اي موقع في السلطة. وعندما كانت المطالبة بالانسحاب تشتد عليها لا سيما من البطريرك صفير ومن مجلس المطارنة الموارنة، كان سياسيون حلفاء لسوريا في لبنان يقولون ان سوريا ترفض الانسحاب تحت ضغط المطالبة بذلك، وانه ينبغي التوقف عن ذلك كي يتم الانسحاب تدريجا وبهدوء ومن دون تصريحات استفزازية. ثم كانت تمضي اشهر بعد ذلك تتوقف خلالها المطالبة بسحب القوات السورية من لبنان، ولكن من دون نتيجة بحيث يبقى الوضع على ما هو. وقد ادى هذا الموقف السوري المتجاهل لمطلب الانسحاب ولما نص عليه اتفاق الطائف والمصرّ على التمديد للرئيس لحود بالقوة والاكراه وتحدي الارادة الدولية الرافضة هذا التمديد المخالف للدستور، أدى كل ذلك الى صدور القرار 1559، في غياب اي دور للجامعة العربية يمهد لانسحاب سوري مشكور من لبنان وينصح بعدم التمديد، فكان ان اضطرت سوريا الى الانسحاب تنفيذا لهذا القرار وتحت ضغط انتفاضة حركة 14 آذار.

وحاولت سوريا على اثر ذلك عرقلة تأليف لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، كما حاولت عرقلة تشكيل محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بهذه الجريمة، لكنها فشلت، وصدرت القرارات الدولية في هذا الشأن.

وعوض ان تقيم سوريا علاقات جيدة مع لبنان وتعترف بالحكومة التي انبثقت من اكثرية نيابية جاءت بها الانتخابات، راحت تحرض من تبقى من حلفائها في لبنان على هذه الحكومة، وتعمل على عرقلة مساعيها للنهوض بلبنان في شتى المجالات، وتدعو الى اسقاطها لتشكيل حكومة جديدة يكون لها فيها اكثرية موالية تعدّ لاجراء انتخابات نيابية مبكرة على اساس قانون جديد يضمن فوز اكثرية نيابية موالية لسوريا، وعوض ان تستجيب مطالب الحكومة اللبنانية التي تمت الموافقة عليها بالاجماع في مؤتمر الحوار، راحت تختلق شتى الذرائع لعدم استجابتها.

بعد كل هذا صار لزاماً في غياب اي دور للجامعة العربية، ان تتدوّل هذه المطالب، أضف اليها اقامة تمثيل ديبلوماسي بين لبنان وسوريا، وترسيم حدود مزارع شبعا. وعوض ان تدخل سوريا في محادثات مع لبنان حول كل المواضيع ذات الاهتمام المشترك توصلاً الى ايجاد حلول لها واقامة افضل العلاقات بين البلدين من دون حاجة الى وساطة عربية او تدخل دولي، اخذت تماطل كعادتها، وصدر عن بعض المسؤولين فيها تصريحات متناقضة، والحجة التي توردها سوريا كل مرة، قبل الدخول في اي بحث او تحديد موعد لاجراء محادثات بين الحكومتين اللبنانية والسورية، هي ضرورة وقف الحملات الاعلامية ضدها اذ لا يعقل اجراء هذه المحادثات في ظل هذه الحملات، ولا الموافقة على اقامة تمثيل ديبلوماسي وترسيم الحدود في اجواء سياسية متوترة، بل بعد تنقية هذه الاجواء. ولأن سوريا تعتمد دائما سياسة المماطلة وكسب الوقت، فهي تعتقد انه من الان الى ان يتم التوصل الى ازالة التوتر وتنقية الاجواء بين البلدين، يكون قد طرأ ما هو في مصلحتها فتصبح هذه المطالب في خبر كان... وهو ما اعتمدته عندما اشتدت عليها المطالبة بسحب قواتها من لبنان، فكانت النتيجة ان اضطرت الى سحبها مكرهة تحت ضغط الانتفاضة الشعبية في 14 آذار وتحت ضغط القرار الدولي.

ويتساءل السياسي نفسه: هل تقع سوريا مرة اخرى في خطأ التقدير، فلا تنفذ طوعا ما هو مطلوب منها تنفيذه، فتضطر الى تنفيذه قسرا؟

ويختم بالقول ان عودة العلاقات الطبيعية بل الممتازة بين لبنان وسوريا، تتوقف على سوريا نفسها. فاذا اصبحت مقتنعة بأن لبنان بات دولة سيدة حرة مستقلة، وعليها ان تتعامل معه على هذا الاساس، فإن العلاقات تعود اكثر من طبيعية ومميزة، اما اذا كانت لا تزال تنظر اليه كدولة تابعة وخاضعة لوصايتها، فلا يمكن التوصل الى اقامة مثل هذه العلاقات، بل ستظل معرضة لتوترات ونكسات دائمة.