ليسَ مَن يجرؤ، أن في لبنان أو في سوريا، على الرفض الصريح لوصفة <العلاقات الديبلوماسية>. المفارقة الطاغية أن من يصنفون سوريا عدواً لهم، يتنطحون أكثر من سواهم لفرض <تبادل السفارات> بين البلدين الجارين. و<الندّية>، كما يتعارفون عليها، هي في الحقيقة خلاف التكافؤ والتجانس، تكابر على الأحجام والأوزان، فلا تبقي مكاناً للتداخل والتمازج، لأنها مهجوسة <بترسيم> كل شيء.

لا يرفض الطاقم الحاكم في سوريا، من جهته، فكرة <العلاقات الديبلوماسية> بالمطلق. إن الطرف الذي يتحمل القسط الأكبر عمّا لحق بأواصر القربى بين الشعوب الشامية الثلاثة، السوري واللبناني والفلسطيني، لا نجده يُبدي رأياً في المسألة، إلا من وجهة نظر محض <ظرفية>، كأن يستغرب كيف المطالبة بعلاقات ديبلوماسية وهو يتعرّض لحملة سياسية ودعائية منظمة، أو محض <إجرائية>، منبّهاً لمجانية مشهد الطوابير المصطفة على باب إحدى السفارتين لنيل تأشيرة دخول إلى البلد الآخر.

لأجل ذلك، تبقى مغفلة الإشكاليات التي نخالها أكثر عمقاً واستفزازاً لبلادة التفكير، والتي نوجزها في اثنتين:

هل يمتلك النظام السوري الحالي مشروعية وافية تعطيه صلاحية التنازل الرمزي والاعتباري عن الكيان اللبناني، ووضع حدّ لحيلة <الإبهام> التي سادت التعاطي السوري، منذ أيام الانتداب الفرنسي، حيال الكيان الصغير المتفرّع عن سوريا، والمجاور لها؟

هل يمكن اعتبار العلاقة بين البلدين مجرد علاقة بين دولتين عربيتين، وإلى أي حدّ تمكن المكابرة على بُعد من أبعاد هذه العلاقة اللبنانية السورية، يظلّ بحدسنا مهما حاولنا الانصراف عن ذلك في سياقات الثأريات القبلية. فعلاقة لبنان بسوريا هي علاقة الصغير بالكبير، والمُحاط بالمحيط، وإلى حد ما، الجزء بالكل، ومن زاوية ما، علاقة الفرع بالأصل. لكن، وقبل كل ذلك، هي علاقة أوجدها اللاهوت وليس يبتسرها الناسوت، كما سنحاول تبيانه بإيجاز.

ثمة بُعد سوري لا يمكن تجاوزه في أي هوية لبنانية، مهما حصدت لمنعتها من شروط ومسوّغات. المصادرة على هذا البعد بالحجة <الشكلانية> بأن سوريا لم تكن لها حيثية كيانية سابقة على وجود لبنان هي مصادرة ضحلة. فحتى على افتراض حيثية لبنانية أقدم من تلك السورية، فإن الحيثية اللبنانية قامت منذ الأساس على قاعدة مواصلة فعل <انسلاخ> صعب عن سوريا. يجد فعل الانسلاخ هذا لاهوته الأرضي في المارونية: التأسيس لسوريا جديدة وأخرى، هي سوريا الحقيقية، ما تبقى من سوريا بعد الإسلام، سوريا المهاجرة الى طرف منها.

قضى فعل الانسلاخ تاريخياً بأن تتطوّر الهوية اللبنانية بالضدّ من الهوية السورية، أي أن يطمس جوهر فعل الانسلاخ نفسه، فتحرّم <سوريا الحقيقية> على نفسها اسم سوريا نفسه، وتسلّمه لخصمها (وهذا ما حدث في التجربة الصهيونية أيضاً، فالمهاجرون الصهاينة هم الذين روّجوا لكلمة <فلسطين> وعرفوا أنفسهم كفلسطينيين في البداية، قبل أن يتنازلوا عن الاسم لضحاياهم بعد 1948).

المفارقة المارونية هي أن لبنان هو سوريا الحقيقية. تبعاً لذلك لا يعود ممكناً التمييز بين ما هو ماروني وما هو لبناني. وبالاذن من كل شهقات 8 و14 آذار التي تستسهل أن تكون <لبنانياً> ما لم تكن مارونياً، مثلما تستسهل استئصال البعد السوري من الهوية اللبنانية.

لا يسع الماروني أن يميّز حقاً بين واقعة أنه ماروني وواقعة أنه لبناني. إنهما مسمّيان للشعور نفسه. والطائفة المارونية تنظر لنفسها في أصقاع الدنيا قاطبة كطائفة لبنانية. أما عند الطوائف الأخرى فيتطلّب اعتناق الهوية اللبنانية، شيئاً من الفصام، اذ لا يمكن أن تكون سنياً لبنانياً أو شيعياً لبنانياً في حركة شعورية واحدة، فتكون سنيتك أو شيعيتك في حيّز ولبنانيتك في حيّز آخر، والرابط بين هذا وبين ذاك يقتضي تأشيرة دخول مارونية، بصرف النظر عن ضعف الموارنة أو شدّتهم في جهاز الدولة.

هنا يكمن الفصام. هوية لبنانية قائمة ببعدها السوري وبالتستّر على هذا البعد السوري، وتلبنن لغير الموارنة على قاعدة توسّل هذا البعد السوري. ثم الفطنة الى أن هذا البعد هو الذي يجعل الموارنة يماهون تماماً بين لبنانيتهم ومارونيتهم، أي بين كون لبنان فعل انسلاخ دائم عن سوريا التي جرت عليها رياح الأسلمة، وفعل تأسيس لسوريا الحقيقية التي خُلع عليها اسم <لبنان>.
هذا البعد <السوري> للهوية اللبنانية هو إلى حدّ كبير البعد <اللامفكّر فيه>. وفي زمن <العلاقات الندية>، وطبول الحرب <اللبنانية السورية>، يصير تناول هذا البعد مرذولاً ومحرّماً، ما يرفع الفصام اللبناني، خصوصاً عند غير الموارنة، إلى حدّه الأقصى، الحد الذي يُنذر في خاتمة المطاف بتهافت الكيان اللبناني، كما عرفناه.