إذا كانت الظروف والتطورات، الدولية والإقليمية والداخلية، تدفع إلى تغييرات أكيدة في سورية، فمن المهم محاولة رؤية محتوى ومضامين ومستويات هذه التغييرات وصوغ أسئلتها. إذ يمكن تلخيص قصة الشرق الأوسط السياسية في الأعوام القليلة المقبلة في مفهومين أساسيين: أولهما، مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول. وثانيهما، التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان في داخل الدول.

فبعد قرارات مجلس الأمن الدولي من 1559 إلى 1680 ذات الصلة، بلغت سورية نقطة مفصلية حاسمة، يرجح أن لا يبقى شيء بعدها كما كان قبلها، خاصة بعد صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية بقيادة براميرتز في الشهر القادم. فهل يعي الحكم السوري ذلك قبل فوات الأوان، ويتجاوز استجاباته البطيئة للأحداث، بعد أن حملت في الآونة الأخيرة طابع ردود فعل متوترة وعقيمة، تهدف إلى شل حراك ناشطي الشأن الوطني العام من المثقفين السوريين، حين أقدمت سلطة الاستبداد على تصعيد نوعي وخطير، بهدف إدامة ثقافة الخوف وإسكات أي صوت معارض وإعادة المجتمع السوري إلى زمن الصمت ؟ أم ينتقل إلى مقاربة جديدة تقوم على المبادرة، تقطع الطريق على الأخطار بإزالة ركائزها الذاتية، عوض انتظار وقوعها في ظرف دولي وموازين قوى تحول دون التعاطي معها بفاعلية ؟

فمع نهاية دور سورية الإقليمي، يُطرح بديلان: إما البقاء دون دور جديد، وبديله القيام بدور ترسمه الإدارة الأمريكية لإعادة هيكلة السرير الأمني الأمريكي للمنطقة على أساس الدولة - الوظيفة وليس على أساس الدولة - الدور الإقليمي، وإلا فمواجهة عواصف أشد خطرا وهولا من عاصفة لبنان. أو أن يقتنع أهل النظام بضرورة إجراء تحولات هيكلية في أبنيته ونهجه، ويؤمنون أن خروجهم من لبنان يجب أن يكون بداية حقبة ميدانها وموضوعها الرئيس علاقاتهم مع مجتمعهم وشعبهم.

هذان المنطقان سيطرحان نفسيهما على سورية من الآن فصاعدا، عبر البديلين الآتيين: أولهما، تشديد القبضة الأمنية في الداخل وتركيز كل جهود السلطة عليه، ما دام ضبطه أمنيا شرط توطيد الأمر القائم (يبدو هذا البديل واضحا من خلال عودة موسم الاعتقالات العشوائية لرموز المثقفين ونشطاء المجتمع المدني)، وتهيئة المشهد السوري لصفقة ما مع الإدارة الأمريكية تساعد على احتفاظ أهل النظام بالسلطة. وثانيهما، الانفتاح الداخلي، والشروع في مصالحة وطنية طال انتظارها وكثرت المطالبات بها، وإصلاح النظام بجدية وعمق، وإعادة تحديد المشكلات التي يجب أن تعالجها سورية بجهود أبنائها، الذين لن يتمكنوا من التعاطي مع الأخطار والتحديات بغير تحول نظامهم من نظام أمني إلى نظام سياسي، يعترف بحقهم في الحرية، وبحق أحزابهم في الشرعية والعلنية، ويقوم على نمط من الإدارة والتنظيم يستند على مشاركة المواطن في الشأن العام، دون قيود تبطل حريته أو تتعارض معها، ويسمح بمراجعة سياساته الداخلية والخارجية، وبتحويل الدولة من دولة فئة متحكمة إلى دولة حق وقانون ديمقراطي تخص كل واحد من مواطنيها.

إنّ حالة الحصار وارتفاع حرارة الضغوط التي تتعرض لها سورية، في حجمها وجديتها وأيضا في تنوعها وشدة تواترها، يضعها أمام خيار هو الأسلم، بل الأفضل لحاضر سورية ومستقبلها، لكنه الأصعب على أهل النظام ومصالح بعض المتنفذين بينهم، يقوم على تعاطٍ عقلاني مع الواقع القائم واتجاهات تطوره، تحسبا من أن تصل الأمور إلى حافة الهاوية، وتاليا استثمار مساحات الوقت الضائع، ليس من أجل الركون إلى أوراق ضغط الحلفاء الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين وإلى منطق القوة العسكرية والأمنية، بل لاتخاذ قرار تاريخي وجريء بنقل مركز الثقل وبؤرة الاهتمام السياسيين صوب الداخل، والسير قدما نحو الإصلاح الديمقراطي الحقيقي الشامل والانفتاح على المجتمع وقواه الحية، بما يعيد صياغة الشرعية السياسية على أسس جديدة: الحرية فورا لجميع معتقلي الرأي والضمير في سورية من خلال تبييض السجون، وإلغاء حالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية في البلاد، وعودة المنفيين السوريين إلى وطنهم من بوابة المواطنية وليس من البوابة الأمنية، وفتح الملف الإنساني للمفقودين في السجون، وإقامة دولة القانون الديمقراطية الدستورية.

إنّ سورية أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية لرجال دولة عقلاء، وإدارة مجدية لكل إمكانياتها المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن تغمض سورية أعينها عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبها، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتها، بترتيب أوضاعها الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الدولية.

وفي كل الأحوال لن نستغرب إن بقيت القيادة السورية تراوح مكانها في سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب، فبنيتها الاستبدادية تبدو عصية على الانفتاح وفهم متغيّرات ومستجدات العصر، إذ أنّ مراكز القوى الأمنية فيها لا زالت أسيرة عقلية الحرب الباردة ومفرداتها المتحجرة وصفقاتها التي أضحت من مخلفات الماضي.