بحكم التاريخ والجغرافيا تميزت العلاقات اللبنانية ـ السورية، رسمياً وشعبياً وعلى كل المستويات، منذ استقلال الدولتين، بكثير من الخصوصية، الى درجة انتفت الحاجة للتبادل الدبلوماسي وفتح السفارات، وترسيم الحدود، وفي اطار هذه العلاقة الحميمية دخلت (القوات السورية) الى لبنان لوقف (الحرب الأهلية) عام 1976. لكن مع اطالة أمد هذه القوات من غير بقاء حاجة للبنان بها، وتراكم الأخطاء السورية في لبنان،والانغماس الزائد في شؤونه الداخلية التي توجت بالتمديد القسري للرئيس إميل لحود 2004 وما أعقبه من سلسلة اغتيالات سياسية، أبرزها اغتيال (رفيق الحريري)، رئيس الوزراء الأسبق، وضعت (النظام السوري) في دائرة الاتهام والشبهات وفتحت باب الضغوطات الدولية عليه، بفعل هذه التطورات السياسية والأمنية وغيرها تدهورت العلاقة اللبنانية ــ السورية ودخلت مرحلة جديدة اتسمت بالتأزم والتوتر. ومع دخول قوى إقليمية ودولية على خط الأزمة عبر (مجلس الأمن الدولي) الذي أصدر العديد من القرارات بشأنها، بعضها يصب باتجاه إعادة السيادة المنقوصة للدولة اللبنانية وبعضها الآخر باتجاه انتزاع (الورقة اللبنانية) من يد سورية وعزل نظامها الحاكم، وجدت بعض الشرائح والقوى اللبنانية في هذه الأزمة، فرصتها للحديث عن مخاوفها وتوجساتها القديمة والجديدة من الوجود السوري في لبنان والتعبير عن شكوكها بالنوايا السورية وسر تمسكها بعلاقات خاصة معه، وتشجعت للمطالبة بإقامة علاقات دبلوماسية ورسم الحدود بين البلدين للتأكد من حسن نوايا سورية تجاه لبنان كـ(دولة مستقلة) ذات سيادة. فالمهتم والمتتبع للشأن اللبناني السوري يدرك جيداً عمق مخاوف اللبنانيين وقلقهم على وجود وبقاء ( لبنان) الصغير من الجار والشقيق الأكبر (سورية) ذات النزعة والتوجهات القومية الوحدوية (السورية والعربية) والتي تخفى خلفها الوجود العسكري السوري في لبنان طيلة ثلاثة عقود، بلغت المخاوف اللبنانية ذروتها مع هذا الوجود السوري، الذي انتهى بموجب قرار مجلس الأمن 1559 في نهاية نيسان 2005،

بعد أن ترك خلفه حلفاء أقوياء يواصل من خلالهم النظام السوري وبتحد ممارسة نفوذه في لبنان، الذي بدأ يقلق القوى الديمقراطية والليبرالية، ليس في لبنان فحسب وإنما في سورية أيضاً، على مستقبل لبنان السياسي، بخاصة مع التغيير الحاصل في موازين القوى الاجتماعية والخريطة السياسية اللبنانية، الذي لا بد من أن تتبعه تغيرات وتبدلات نوعية وبنيوية أخرى ومهمة في المجتمع اللبناني وعلى بنية الدولة اللبنانية. لا جدال، على أن لسورية أيضاً مخاوفها من لبنان، الخوف من أن يؤدي انفتاح (لبنان الديمقراطي) في علاقاته، السياسية والاقتصادية والثقافية، على أميركا والغرب الأوربي، الى انسلاخه عن محيطه السوري والعربي. ومثلما كانت في الماضي الانقلابات السياسية في دمشق، تشكل مصدر قلق وتوجسات سياسية لبيروت، يتوجس اليوم النظام السوري ويتخوف كثيراً من أن تتأثر وتتلقح البيئة الثقافية والسياسية السورية بالهبات والانتفاضات التي تجتاح لبنان من حين لآخر، وبالتالي من انتقال عدوى الحريات و(الديمقراطية اللبنانية)، على علاتها، الى سورية.هذه المخاوف دفعت السلطات السورية في أيار الماضي لاعتقال العديد من الناشطين السوريين من الذين صاغوا أو وقعوا، مع مثقفين لبنانيين، على (اعلان بيروت دمشق)، طالبوا فيه بترسيم الحدود بين الدولتين وفتح السفارات واعتراف سوري رسمي ونهائي بالدولة اللبنانية، واعتبر الإعلان انجاز هذه الخطوات شرطاً لازماً وضرورياً لتصحيح العلاقات بين البلدين ومدخلاً لطي صفحة الماضي السلبي.

من الخطأ التقليل من مخاطر وتداعيات استمرار محنة العلاقات اللبنانية - السورية ومن انعكاساتها السلبية على أمن واستقرار الدولتين، بخاصة على الوضع اللبناني الأكثر هشاشة وضعفاً وانقساماً على ذاته، في هذا المناخ الإقليمي والدولي المتوتر والضاغط على المنطقة في مرحلة جداً صعبة وقاسية على البلدين، حيث برزت فيها تحديات واستحقاقات يصعب مواجهتها إلا في اطار علاقات طبيعية ومستقرة ومتوازنة بينهما ومع العالم الخارجي ومن غير أن يعملا معاً، بجدية وإرادة حقيقية، كل ما من شأنه أن يخرج العلاقة اللبنانية ــ السورية من النفق الذي دخلت فيه ومن أجل تجاوز الماضي بكل سلبياته وحل جميع قضايا الخلاف (السياسية والاقتصادية والأمنية ومشاكل الحدود) والتأسيس لمرحلة جديدة من العلاقة تقوم على قاعدة المصالح المشتركة وضمان أمن البلدين واحترام سيادة واستقلال كل دولة وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدولة الأخرى. بالطبع، لا يمكن للبنان في وضعه الراهن، (دولة بنظام ضعيف ومنقوصة السيادة والسلطة، قطيعة بين الحكومة والرئاسة، شرخ داخل الحكومة بين أغلبية وأقلية، شعب منقسم على ذاته تتجاذبه الانتماءات الطائفية والمذهبية والسياسية وامتداداتها الإقليمية)،

أن يبني علاقات صحية وسليمة ومتوازنة، ليس مع سورية فحسب وإنما مع أية دولة أخرى. كذلك الحال بالنسبة لسورية، لا يمكن لها أن تبني علاقات متوازنة ومستقرة مع لبنان طالما بقيت سياساتها تجاه هذا البلد الجار والشقيق أسيرة عقدة الحدود (السياسية المصطنعة)، متجاهلة حقيقة كون معظم حدود دول العالم هي حصيلة توافقات إقليمية ودولية، ولطالما بقيت (نظرية المؤامرة) ومبدأ التخوين والتشكيك يشكلان القاعدة الأساسية للسياسة السورية في التعامل والتعاطي مع الآخر المختلف معه، في الداخل والخارج، فليس من الواقعية والمنطق بشيء أن يفسر ما جرى ويجري بين لبنان وسورية بسياقات الخارج وحده وتحميله للآخرين وإعفاء الذات كلياً من المسؤولية عن الأزمة الراهنة.