لم تفاجئنا تصريحات الرئيس الأمريكي جورج بوش التي حمل فيها على سوريا بشدة وتحديداً على الرئيس بشار الأسد. فمن الواضح أن بوش يتعمد “شخصنة” المعركة فبدلاً من أن تكون بين دولتين تكون بين شخصين. فالرئيس الأمريكي وعشية جولته الميمونة إلى المنطقة في منتصف يناير/ كانون الثاني المقبل شن حملة شعواء على سوريا واستثناها من برنامج الزيارة التي حدد لها هدفين على حد قوله..أولهما: هو العمل على تحقيق المصالحة العربية “الإسرائيلية” ودفع عملية السلام بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”. وثانيهما: التأكيد على الالتزام الأمريكي بتوفير الفرص أمام المنطقة لتحقيق الأمن.

وإذ يقول بوش إن صبره قد نفد تجاه الأسد منذ وقت طويل لأنه يؤوي قادة حماس ويسهل الأمور لحزب الله ويدور في فلك إيران ويوجه الانتحاريين من بلاده إلى العراق، ويعمل على زعزعة استقرار لبنان، تساءل السوريون في المقابل: لماذا لم يتحاور بوش مع الأسد إذا كان هدفه حقيقة هو نشر السلام في المنطقة؟ ومعروف أن بوش استبعد في مؤتمر صحافي قبل أيام إجراء أي محادثات مباشرة مع الرئيس السوري مقابل أن بشار الأسد كشف لصحف نمساوية عن استعداده للقاء بوش من أجل تسهيل عملية السلام. كما أن بوش سبق وحذر رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت من إجراء مفاوضات مباشرة او غير مباشرة مع سوريا فى الوقت الراهن.

وإذا كان لسوريا تساؤلاتها، فلنا نحن أيضاً تساؤل وهو: “ماذا يريد بوش من العرب وسوريا قبيل رحلته للمنطقة؟ هل حقاً يريد سلاماً في فلسطين واستقراراً ومصالحة في العراق وعدلاً في لبنان؟ وإذا كان يشيد بمدى التقدم السياسي الذي تم إحرازه في العراق رغم عدم رضائه عن وتيرته، فماذا يقول العرب وهم يرون عراقاً غير العراق الذي عرفوه من قبل؟ فبينما يتهم الرئيس الأمريكي سوريا بتسهيل دخول “الإرهابيين” إلى العراق لشن عمليات انتحارية وخلافه ضد القوات الأمريكية والمصالح العراقية، تجاهل بوش تحذير قادته العسكريين من إمكان أن تتحول معسكرات الاعتقال الضخمة التي يديرها الجيش الأمريكي في العراق إلى بؤر لتفريخ الإرهابيين. ويقول تقرير نشرته مجلة “كريستيان ساينس مونيتور” إن القوات الأمريكية تحتجز حوالي 30 ألف عراقي في معسكرين أساسيين في البصرة وبغداد بما يتعارض مع فكرة كسب ثقة المواطنين وإن استمرار احتجازهم سيحول معسكرات الاعتقال إلى بؤر تمرد خطيرة لتفريخ الإرهابيين.

إذاً، سوريا ليست المسؤولة عن العمليات التي يشنها العراقيون في بلادهم ضد القوات الأمريكية وذلك بشهادة القادة العسكريين الأمريكيين في تقاريرهم المرسلة للبيت الأبيض الذي يبدو أنه يتجاهل مثل هذه التحذيرات.

لذا، ونحن نتحدث عن علاقات متقطعة بين دمشق وواشنطن تجدر الإشارة إلى الطموحات السورية من اجتماع انابولس الذي استضافته الولايات المتحدة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. فقد شاركت سوريا في المؤتمر بعد أن تضمنت أجندته قضية الجولان المحتل وذلك تنفيذاً لشرط دمشق رغم علمها المسبق بأن الأمور ستظل كما هي، وأن هدف المؤتمر هو تحريك عملية المفاوضات المجمدة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، علما بأن سوريا لا تعارض البتة إحراز تقدم على المسار الفلسطيني لأن عودة أي شبر من الأراضي العربية المحتلة هو مكسب للعرب ولسوريا أيضاً. غير أن المسألة الأهم من المشاركة السورية في انابولس هو ربما توقع دمشق حصولها على سلة حوافز سياسية واقتصادية من القوى الإقليمية التي حثتها على المشاركة في هذه الاجتماعات.. وهو ما لم يحدث حتى الآن عربياً وأوروبياً وأمريكياً رغم مرور فترة ليست بالقصيرة على انتهاء انابولس وكانت كافية لتحصد سوريا مكاسب ما زرعته . ومن هذا المنطلق وبسبب عدم وفاء بعض هذه القوى تنفيذ تعهداتها مثل توقيع اتفاق الشراكة مثلاً مع الاتحاد الأوروبي، فإن سوريا لا تريد قطع العلاقات مع حزب الله وحماس والأهم الابتعاد عن ايران.

بدهي أن تعيش سوريا الآن أجواء توتر وقلق غداة زيارة بوش للمنطقة، وهو سبب كاف لانزعاج سوريا بشأن مدى نجاح القمة العربية التي من المتوقع أن تستضيفها في مارس/ آذار المقبل. خصوصاً بعد انتشار شائعات عن إمكان تخلي دمشق عن استضافة القمة والمطالبة بعقدها في دولة المقر (مصر) بعد ورود تقارير من دول عربية بشأن غياب قادتها عن المشاركة والاكتفاء بتمثيل على مستوى وزراء خارجية. وهذا في حد ذاته يعد أمراً مقلقاً لسوريا التي تريد إنجاح قمة تعقد في عاصمتها.

إن السياسة الأمريكية تجاه سوريا متضاربة فهي تسعى لعزل دمشق عن محيطها العربي والإسلامي في حين أن تقرير بيكر/هاملتون الخاص بالعراق يطالب بعدم الاستغناء عن الدور السوري خاصة في العراق ومن ثم في بقية قضايا المنطقة. فاستقرار الأوضاع العراقية يعتمد بشكل كبير على سوريا حتى وإن أظهرت واشنطن عكس ذلك مع العلم بأن تدهور الأوضاع الأمنية في العراق مرجعه في المقام الأول هو الاحتلال الأمريكي. والأهم من ذلك أنه ليس صحيحاً أن سوريا قادرة على دعم جهات عراقية عبر تهريب الأسلحة لها أو غض البصر عن عمليات تسلل إرهابيين لشن عمليات ضد القوات الأمريكية في العراق. ويعود هذا إلى رغبة دمشق الجادة في امتلاك أجندة سياسية تغنيها عن الوقوع بين فكي الأسد وهي أعلم بأن هذا الأسد ينتظر وقوع الفريسة في الفخ. والقيادة السورية تقرأ الخريطة السياسية جيداً ولن تمنح الولايات المتحدة هذه الفرصة لتكون سوريا الدولة الثانية في المنطقة في قبضة أمريكا بعد سقوط العراق.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)