مؤتمر ساركوزي – مبارك الصحفي الأخير، كان مشهدا نموذجيا لجوهر العلاقة بين الأنظمة العربية والديبلوماسية الغربية عموما. يقف الحاكم العربي على المنصة يستمع إلى زميله الغربي، ويتلقى الإهانات نيابة عن شعبه وأحيانا نيابة عن العرب جميعا.

يتمتع دبلوماسيو الغرب بامتيازات سيادية لا شك فيها داخل أي علاقة مع الحاكم العربي، ولكن لكل بالطبع أسلوبه الفردي في التعبير عن ذلك. منهم من يحاول الحفاظ على صراحته وسياديته في التعامل ولكن مع الحفاظ أيضا على قدر من اللياقة الشكلية في التوجه، تنبع أساسا من الإلتزام باحترام الذات، وليس الآخر الذي لا يمكن احترامه عقليا أو مزاجيا بأي حال من الأحوال. ولكن منهم أيضا من لا يستطيع حتى لو حاول مخلصا، أن يجبر نفسه على لياقة مجانية على حساب قناعته. أي أنه مخلص للحقيقة إلى درجة الصفاقة. هذا النوع من الديبلوماسيين هو عادة ظاهرة حديثة ظهرت مع العصر الأمريكي الجديد، الذي حذف بند الديبلوماسية من الأداء السياسي مع البعض، لزوم مراعاة عينية الهدف والوصول إليه بأقل كلفة زمنية، ولزوم توضيح سيادية موقفه السياسي الحاسم. وهذا النهج ليس قضية مزاجية فقط، بل هو من جوهر الأداء التركيعي المدروس، الذي يستخدم الصدمة في تحقيق نموذج الشعب المهان المقتول الإرادة والكرامة الذاتية معا. أي أنه في النهاية عبث هادف بسيكيولوجية الجماعة المستهدفة، يوظف الإحباط لخلق وترسيخ وجهة نظر ذاتية تسلم بسقفها الذاتي المتدني. وقد كان المؤتمر الصحفي الفرنسي المصري نموذجا شديد الوضوح على ذلك.

ويبدو أن استراتيجيي التخطيط للعولمة في أمريكا أدركوا أن تطبيق هذا النهج يحتاج إلى نوعية خاصة من الديبلوماسيين ذوي الشخصيات الضعيفة يكونون على مستوى منفذي المهمات الخاصة. فالشخصية المهزوزة هي الأقرب دائما إلى الصفاقة ومحاولات التعويض عن انخفاض السقف الذاتي للتقييم بالتعالي الإستعراضي. ونظرة ورائية قريبة إلى طاقم الديبلوماسية الأمريكي الذي بدأ طريقه تحت إمرة بوش، تشي بذلك التجانس بين ديبلوماسية الرذالة والترذيل الأمريكية وشخصياتها المعتمدة. يكفي تذكر بعض هذه الأسماء المختارة من مواقع اجتماعية ووظيفية خلفية وتقديمهم إلى الصف الأول لنلمس تركيز المخططين الأمريكان على تدني سيكيولوجية المنشأ أوالشخصية أو الثقافة عند اختيارهم. تحضرني الآن أسماء مثل كولن باول، رايس، كوفي عنان، خليل زادة، البرادعي، بولتون، بريمر، بلير ومؤخرا بان كيمون، ميركل، ساركوزي. وهذا ليس خلطا كما قد يبدو، فهؤلاء كلهم موظفون مباشرة في سياقات دبلوماسية مختلفة للعولمة الأمريكية والغرب. وعند العودة إلى سجل الذاكرة السياسية لهؤلاء يمكن القول أن سلوكياتهم وتصريحاتهم كانت نموذجا للشذوذ والنهج الخاص والمتشابه. صحيح أن ميركل على سبيل المثال ظلت أقل فظاظة من بلير أو ساركوزي، ولكنها لم تخرج على روح السياق.

من بين هؤلاء يمتاز ساركوزي بصفاقة منقطعة النظير. ولعل سبب مرذوله الإضافي يعود إلى رئاسته غير المقنعة لدولة مثل فرنسا، واضطراب شخصيته إلى درجة الشعور بالقماءة قياسا على منصبه. كل من يلاحظ سلوك ساركوزي يستطيع أن يشتبه في أنه رئيس دولة يتصرف مثل حارس في مقهى ليلي. وهذا بالطبع سبب سلوكه التعويضي في أنه يجلس في مقعد نابليون، وأن فرنسا هي تحت حكمه أكثر عظمة مما هي عليه فعلا. إنه بمعزل عن كونه تكليفا أمريكيا في فرنسا، يريد مجدا شخصيا يجعله يبدو شيئا آخر. ولكن المشكلة ليست في هلوساته الشخصية الآن، إنها في كونه يستبق الأمور ويتصرف بناء على هذه الهلوسات. فهو يتحدث في مؤتمره الصحفي في مصر وكأنه يخطب عند سفح الهرم، ناسيا أن مصر هي بلد أمريكي محكوم بوصاية إسرائيلية. وأنه لم يكن هناك لزوم للهجته المتشددة أو إرغام مضيفه على مجاراته في غضبه على سوريا.

بالطبع، أنا مثل غيري، لا تسمح لي التجربة اليومية على أن أربأ بأي نظام عربي عن الإهانة المباشرة. ويستطيع ساركوزي أو كوشنير أن يهدد النظام السوري وكأنه طاقم بلدية مرسيليا، أو أن يهين المصريين في بلدهم من خلال دعوته إلى النظام المتوسطي، بديلا عن الإستقلال، وذلك إنطلاقا من واقع علاقته بنظاميهما. ولكنني لست نظاما عربيا. أنا مواطن عربي أهانه ساركوزي. فحينما تحدث عن سوريا وكأنها بلد محتل كان معه بعض الحق. وحينما تحدث في مصر وكأنها إقطاع سياسي كان معه كل الحق، ولكنه حينما وجه كلامه في مؤتمر صحفي فقد أهان نظريا كل مواطن عربي قاصدا ذلك كما سبق وشرحنا. وبصفتي مواطنا عربيا أشعر بالحاجة إلى رد الإهانة. لقد تجاوز حدوده في علاقته معي كمواطن. جعلني أعتقد أنني بدون كرامة من خلال علاقته الخاصة بمبارك والتي لا تعنيني. إن كونه مهاجرا في فرنسا لا ينفي أنه في الأصل من بلد متواضع على كل الأصعدة لا يكاد التاريخ يلم به إلا صدفة. وكونه هاجر إلى فرنسا لا يعطيه أكثر من حق الزواج بفرنسية دون ادعاء انه خامة فرنسية مفتخرة. وهو يعلم أنه لولا إجازته من أمريكا سيدة فرنسا لما استطاع الوصول إلى بعض ما وصل إليه اعتمادا على عراقة المولد أو الذات أو التميز الشخصي. إن السياسة مليئة بالصدف المركبة، وقد حكمنا ذات يوم أبناء محظياتنا الأوروبيات، وحتى محظياتنا الأوروبيات أنفسهن بعد أن أسلمن، كما حدث له هو بعد أن تفرنس. ومن حقه استغلال فارق القوة بينه وبين مبارك سياسيا على هذا الأساس، ولكن الخروج عنه إلى مستوى المواطن العربي هو صفاقة وفجاجة وزعرنة تليق به شخصيا ولا نقبلها.

أنت، وأمك بالتبني تعتبران عظماء قياسا على العلاقة السياسية بالأنظمة العربية، ولكن قياسا على العراقة الحضارية والإنسانية أنتما عالة على التاريخ العربي السحيق حتى بسراويلكم. أنا لا أفاخرك فالواقع المعاصر هو سيد الموقف، ولكنني أرد لك الإهانة على المستوى الشخصي حينما انحدرت إليها مع مبارك الحاكم ونسيت مجرد وجودي كمواطن. أنت قياسا على المواطن العادي هنا أو في فرنسا لا كرامة شخصية لك. لك منصب سياسي اشتريته بتلك الكرامة من أمريكا. لقد ترعرعت منذ نعومة أظفارك في حضن العناية الأمريكية المكثفة لتصبح عميلا لها في أوروبا مثل بلير. فأين هو تميزك الشخصي حتى عن الحكام العرب سوى أننا نعلم أنهم عملاء بينما لا يعلم الفرنسيون أنك عميل أمريكي.

لقد سلمك المخططون الأمريكان والصهيونية العالمية ملف أوروبا والشرق الأوسط بالوكالة، استغلالا لمواهبك البريدية وأمانتك في الخدمة، وإبعادا للسحنة الأمريكية الممقوتة عن الساحة. ولكنك منذ أن سلمت أوراق اعتمادك من خلال تصريحاتك المبكرة أصبحت نسخة مشوهة لتلك السحنة. وعلى المستوى الشخصي برزت خفتك ونزقك البنيوي من خلال التراكض بين ليبيا وتشاد لترقيع جرائم بلغارياتك ومبعوثيك لخطف الأطفال. وكما قلت بدوت وكأنك وسيط مافيوي ومخابراتي أكثر من كونك رئيس دولة. وأنت الآن تتراكض بين عواصم الأتباع العرب لترسم لهم حدود المهام التي أوكلتها أمريكا إليك. منذ البداية لم تثر الإنطباع بأنك رئيس دولة بمدى ما أنت وسيط أمريكي بالوكالة. لذلك لا تتوقع لنفسك نهاية مشرفة. ستكون بوصفك من المحافظين الجدد التزاما وثقافة، واحدا من أكثر الملفات الفرنسية رداءة في هذه المرحلة. سيكتب في ملفك أنه كان لفرنسا رئيس كان يعمل ساعيا أمريكيا، وأن محور أهميته قد تركز حول حل بعض ملفات جرائم شركات الأدوية وعصابات المافيا واستفزاز العرب بصفاقته. وأن أبرز صفاته كانت اضطراب الشخصية والنفاق للصهيونية وإسرائيل وليتا نعمته. سيكون حتى ملف القابلة الأمريكية وملف صاحب الإستراتيجية المستطيلة أفضل من ملفك.