كان السؤال الاساسي الذي طرح أمس في باريس أكثر من غيره، هو: هل انتهت المهلة الامريكية لفرنسا بصدد معالجة ملف الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وصار لزاما الانتقال الى مرحلة جديدة، من اختلاط الاوراق وعودة الدور الامريكي على نحو ما كان عليه، أي قبل ان ترمي العاصمة الفرنسية بثقلها، وتتولى مهمة جمع الاطراف اللبنانية حول انتخاب رئيس جمهورية توافقي؟

مبرر طرح هذا السؤال اعلان وزير الخارجية السوري وليد المعلم امس عن وقف التعاون السوري - الفرنسي بصدد حل الأزمة اللبنانية، والذي يمكن عطفه على الاحاديث والتسريبات السرية خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، من جانب العديد من المسؤولين الفرنسيين حول وجود تفويض امريكي لفرنسا، للتفاهم مع سوريا على مخرج لأزمة الاستعصاء الرئاسي، وقد تكلل ذلك في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي خلال مؤتمر اسطنبول حول العراق، ومن ثم أثناء زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى واشنطن في نفس الشهر، حين رحب الرئيس الامريكي جورج بوش علانية بالرسائل، التي بعثتها باريس الى دمشق من اجل تسهيل عملية انتخاب رئيس لبناني جديد. وقد اعتبرت مسألة مشاركة سوريا في لقاء “انابولس” للتسوية علامة مميزة على طريق هذا التفاهم.

كان واضحا منذ أن بدأت باريس مساعيها لجمع اللبنانيين في تموز/يوليو الماضي في “سان كلو”، انها لا يمكن ان تتحرك منفردة، أو من دون تفاهمات الحد الأدنى مع واشنطن، التي تبقى صاحبة النفوذ الاكبر في لبنان، رغم ثقل فرنسا السياسي والمعنوي، ومع أن الأوساط الفرنسية الرسمية بقيت تؤكد في صورة مباشرة وغير مباشرة، ان التفاهم تام بين الجانبين، إلا أن نقاط الخلاف كانت تظهر بين حين وآخر، ويمكن الحديث هنا عن نقطتين اساسيتين: الأولى هي رفض واشنطن إعطاء دور لدمشق في الاستحقاق الرئاسي اللبناني. والثانية عدم قبول واشنطن بحجج المعارضة اللبنانية حيال تفسير الدستور بصدد انتخاب رئيس بالنصف زائداً واحداً. وقد كانت فرنسا ترد دائما خلال الأشهر الماضية على هاتين النقطتين بالقول، ان دور سوريا هو مسهل ومساعد للعملية وليس اكثر، وعليه لن تعترف فرنسا بأي نفوذ سياسي أو غير سياسي لها في لبنان، وهي عندما تتصل بها وتتحاور معها حول الوضع في لبنان، فذلك انطلاقا من ادراكها بقدرتها على ممارسة تأثير كبير في حلفائها في لبنان، والثمن الوحيد الذي تقدمه باريس الى دمشق هو اعادة العلاقات الى ما كانت عليه قبل الخلاف حول القرار 1559 في خريف سنة ،2004 وذكر المسؤولون الفرنسيون ان الرسائل التي حملها مساعدو ساركوزي ومستشاروه الى الرئيس السوري بشار الأسد بقيت في هذا الاطار، ولم تتضمن أية وعود أخرى. أما بصدد النقطة الثانية فإن الفرنسيين أبدوا معارضة شديدة لمبدأ الانتخاب بالنصف زائداً واحداً، وظلوا يدعون خلال الأشهر الماضية الى “انتخاب رئيس توافقي يمثل أكبر اجماع لبناني ممكن”، ولو لم يعارضوا مبدأ الانتخاب بالنصف زائداً واحداً، فربما كان هذا الخيار عرف طريقه ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي، مع انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود.

يؤكد اكثر من طرف فرنسي ان المهلة الامريكية لفرنسا كانت محددة بنهاية سنة ،2007 وهذا ما يفسر الدوافع من وراء سلسلة الرسائل التي بعثتها باريس الى دمشق خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، والتي اقترنت بضغوط دبلوماسية وتهديدات ضمنية، وضيق علني، وقد صرح وزير الخارجية بيرنار كوشنير من بيروت بأن فرنسا سوف تكشف معرقلي الاستحقاق الرئاسي، وكان مفهوماً من ذلك انه يعني سوريا، وان هذا الكلام ليس سوى رسالة ضغط وتخويف. وقد كانت الرسالة ما قبل الأخيرة والأكثر صراحة ومباشرة تلك التي وجهها ساركوزي عبر بعض الصحف العربية، والتي اعطى فيها للرئيس السوري مهلة حتى الثاني والعشرين من الشهر الماضي، لكن “الأليزيه” تدخل لاحقا ليقول ان الرئيس لم يقصد توجيه انذار، بل أراد أن يضرب موعداً للجميع. وبقي الموقف يراوح عند هذه الوتيرة حتى ذهب ساركوزي نحو مستوى أبعد في التصعيد، حين قال في المؤتمر الصحافي الذي عقده في القاهرة مع نظيره المصري حسني مبارك، ان فرنسا سوف تمول المحكمة الدولية المكلفة محاكمة المتهمين باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري.

يستشف من رمي ساركوزي هذه الورقة أمران: الأول أنه أراد تهديد سوريا بوضوح، وان المساعي معها وصلت الى طريق مسدود. والثاني ان فرنسا لم تكن في وارد تقديم اي مقابل لسوريا ثمناً للمساعدة التي يمكن ان تسديها في لبنان، سوى امكان تحسين العلاقات الثنائية. وتأكيداً لهذا بقي المسؤولون الفرنسيون يرفضون نقاش قضية المقابل، ولم يكن واضحاً حتى ما اذا كان هناك أي تعهد بتحسين العلاقات الامريكية - السورية، الأمر الذي يفسر وقوف سوريا في منتصف الطريق، وعدم الذهاب مع المبادرة الفرنسية حتى النهاية.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)