بصورة ما، كان العام المنصرم عام إيران في الشرق الأوسط. فقد اجتاحت تأثيرات العامل الإيراني مِـنطقة شرق الإقليم بمستويات مختلفة وحددت إيقاع الحركة فيها، سِـلما أو عُـنفا.

لكن ليس هناك يقِـين بنفس الدرجة، فيما إذا كان هذا العام هو بداية النهاية لما يُـعتبر منذ فترة الحقبة الإيرانية أم أن "العرض الكبير" لم يحدث بعد.

إن ذاكرة الشرق الأوسط مع تأثيرات صعود قِـوى إقليمية على شكل المنطقة خلال فترات تاريخية مختلفة، يُـمكن أن توضِّـح ما الذي قامت به إيران بالضبط في الإقليم خلال السنوات الثلاث الماضية، وصولا إلى العام الحالي، الذي شهد ذِروة تأثيرات سياساتها في اتجاهات دفعت عموما نحو تفاقُـم الصراعات بالمنطقة.

لقد كانت مشكلة الدول الرئيسية في المنطقة دائما هي أنها تفهم "الأدوار الإقليمية" على أنها القدرة على تغيير الأوضاع الإقليمية في اتجاهات صراعية في الغالب، فلم يحدث أن ظهرت في الشرق الأوسط دول تدفع في اتجاهات تعاونية أو تقدم نماذج إصلاحية، كما حدث في أوروبا الغربية وجنوب شرق آسيا، وحتى عندما حدث ذلك أحيانا، كانت الوسائل المستخدمة تدفع الإقليم في اتجاهات أسوأ ممَّـا هو قائم بالفعل.

الطريق إلى إيران

كانت سنوات الخمسينات والستينات تُـمثل الحِـقبة المصرية، بما ارتبط بها من صعود صاروخي للمد القومي العربي، وانفجار الحروب النظامية واسعة النطاق مع إسرائيل، وسياسات المواجهة الاختيارية أو الإجبارية مع الغرب، مع ظهور ما سُمي بـ "الحرب الباردة العربية" في نفس الوقت، وانتهت تلك الحِـقبة بهزيمة مُـروّعة عام 1967، استمرّت بعدها بعض التأثيرات المصرية، لكن كانت هناك حِـقبة أخرى قد ظهرت.

كانت السبعينات هي سنوات السعودية، التي اتسمت – حسب التوجهات السائدة – بصعود تأثير العامل النفطي على العلاقات الإقليمية وبدايات انتشار الأصولية في الشرق الأوسط واتجاه علاقات المنطقة نحو منطِـق الصفقات، التي تهدف عموما إلى احتواء سلوكيات الدول، قبل أن تدخل المنطقة حالة ركود في الثمانينات، تخلَّـلتها تأثيرات إسرائيلية.

في عام 1990، كانت المنطقة على وشك دخول حِـقبة عراقية، ربَّـما كانت ستُـمثل الفترة الأسوأ في تاريخها، فقد كان ثمّـة توجُّـه لاستخدام القوة المسلحة أو سياسات الابتزاز ضد الدول المجاورة، وتصوّر لإمكانية ممارسة زعامة مُـطلقة في الإقليم، مع تشكّـل محاور إقليمية عربية تُـعيد الحروب الباردة مرّة أخرى، في ظل مواجهة حادّة أو صفقات دولية مع العالم، لكن تلقى العراق أيضا هزيمة مروِّعة عام 1991، لتدخل المنطقة حالة من التدويل في ظل سيطرة العامل الأمريكي.

الوصول إلى طهران

يوجد تصوّر بأن الدور الإقليمي قد سقط بين قدمي إيران، وأن ما حدث هو أن حالة الفراغ الإستراتيجي التي خلَّـفها انهيار العراق إثر غزو الولايات المتحدة له عام 2003، وحالة الشّـلل التي أصابت ما اعتادت القنوات الفضائية على تسميته "النظام العربي الرسمي"، إضافة إلى الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط على نحو وفَّـر موارد مالية كُـبرى، قد أدّت إلى بداية الحِـقبة الإيرانية، فقد وجدت إيران أمامها منطقة خالية قامت بدخولها.

لكن ذلك ليس صحيحا تماما، فقد كانت إيران قد استعدّت جيدا لفترة ما بعد صدّام حسين في العراق، وحاولت تجاوُز حُـدود الإقليم نحو مناطق مختلفة، في ظل "المد الثوري"، وكانت قد بذلت جُـهدا ضخما، علنا وسِـرا، لامتلاك قُـدرات نووية، وبالتالي، فإنها كانت الطَّـرف الأكثر استعدادا للتقدّم عندما بدا أن الإقليم ينهار تحت ضغط المحافظين الجُـدد في واشنطن.

كانت لدى إيران أدوات فعّـالة، ظهرت أهميتها فيما بعد، إذ كانت قد تبنّـت بعض القوى السياسية – العسكرية العراقية خلال الثمانينات، وأتاحت لها مواردها الكبيرة إتِّـباع دبلوماسية الأموال على نِـطاق واسع، على نحو ما تُـوحي مسألة الدعم المالي لحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، كما كانت ارتباطاتها – التي هي محل جدل – ببعض فئات الشيعة في المنطقة العربية، توفِّـر لها قاعدة قوّة، إضافة إلى نشاطات الحرس الثوري الذي يُـمثل "دولة داخل الدولة الإيرانية".

حسب بعض التحليلات الإقليمية، فإن طبيعة التوجهات الإيرانية ذاتها كانت واحدة من عناصر قوتها، فتكلفة تغيير الأمر الواقع في المنطقة، أقل وأسهل بكثير مما هو مطلوب للحفاظ على الأمر الواقع داخل الدول، التي تستهدفها إيران، وهي المعضلة التي واجهت القِـوى العربية التقليدية، كالسعودية ومصر، اللتين كانتا تحاول بصعوبة تحييد تأثيرات سياسة إيران، دون جدوى، على الأقل بالنسبة للعراق.

الحقبة الإيرانية

كانت ملامح الحِـقبة الإيرانية شديدة الوضوح في الشرق الأوسط. فقد أتَّـسمت تفاعُـلات الإقليم بتصاعُـد التدخلات في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وصعود المشكلات المذهبية داخل المنطقة، فلم يحدُث أن أُثيرت المسألة السُـنية – الشيعية بهذا المستوى، وبدأ ظهور ما يُـسمى بـ "الفاعلين الذين هم ليسوا الدولة" في المنطقة، وتفاقُـم بعض الأزمات الداخلية في العراق ولبنان وغزة، ومخاوف من جولة جديدة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط.

كانت هناك بالتأكيد ملامِـح حادّة لأوضاع إقليمية لم تكُـن مُـرتبطة تماما بتصاعُـد النفوذ الإيراني، كتنامي إرهاب القاعدة على ساحة المنطقة في العراق ولبنان والأردن وسيناء وشمال إفريقيا، بل بدا أن القاعدة في العراق تَـعتبِـر أن إيران من ألَـدّ أعدائها، كما أن الاحتجاجات الجماهيرية التي تصاعدت داخل الدول، لم تكُـن تحمل أية تأثيرات إيرانية، وهو ما يشير إلى أن تأثيرات "قادة الحِـقب" لم تعُـد كما كانت عليه.

إن الإقليم قد أصبح أوسع كثيرا من قُـدرة أي فاعل واحد على التأثير في شؤونه، خاصة مع استمرار حالة التدويل غير المسبوقة لِـما يحدث فيه، لكن المؤكّـد أن إيران تُـعتبر، في العراق على الأقل، الدولة الثانية الأكثر نفوذا بعد الولايات المتحدة، كما أنها تُـمارس في لبنان دورا لا يمكن تجاوُزه من خلال ارتباط حزب الله، مذهبيا وسياسيا وماليا بها، وقد تمكّـنت من دخول غزة عبر ما لا يقل عن 250 مليون دولار.

وصلت إيران أيضا إلى اليَـمن والسودان وسوريا بمُـستويات مختلفة، أثير حولها الكثير ممّـا لا يمكن نفيُـه أو إثباته ببساطة، فهو يتعلّـق بأمور خطِـرة تتّـصل بهوية المُـجتمعات أو استقرار النُّـظم، ووضعت الخليج على أطراف أصابعه في ظل احتمالات لنُـشوب حرب رابعة على ساحته.

عام الحسم

إن عام 2007، يمثِّـل ذِروَة تأثير العامل الإيراني في الشرق الأوسط، ولا يزال مِن المُـمكن تصوّر أن عام 2008 سيكون امتدادا لعام 2007، لكن هناك مؤشِّـرات تدفع في اتجاه أن النفوذ الإيراني في الإقليم قد يبدأ في السير على مُـنحنى الهبوط خلال ذلك العام لدرجةٍ دفَـعت أحد المشاركين في حلقة نقاش مع الدكتور علي لاريجاني بنقابة الصحفيين المصرية في نهاية ديسمبر (2007)، إلى سؤاله عمّـا إذا كانت إيران قد انكسَـرت دون أن تُـعلن ذلك.

لقد بدأت بعضُ القِـوى الإقليمية الأخرى، كما كان يحدُث في العادة، في الوقوف ضِـد إيران، كما يجري من جانب السعودية في لبنان، ومصر في غزة، ولم يعُـد حزب الله يحُـوز نفس شعبيته القديمة، وتمكّـن اليمن من احتواء مشكلة الحوثي، وبدا أن تحالُـف طهران – دمشق يتضمَّـن قَـدرا كبيرا من البراغماتية، ووضح فجأة أن إيران قد أوقفت برنامجها النووي العسكري المتصور عام 2003، وهو ما سبّب إحباطات داخل الرأي العام العربي.

وحتى في العراق، حيث كان ثمة تصوّر سائد بأن العرب قد فقدُوها لصالح إيران، بدا أن "الصحوات" قد بدأت تواجه النفوذ الإيراني، وبدأ الشيعة العرب في التأكيد على هويتهم الخاصة، وثمّـة مُـيول كردية لإعادة النظر في بعض الأمور، ووضح أن إيران ترغب في الحوار مع الولايات المتحدة، مثلما ترغب الولايات المتحدة في الحوار معها.

إن كل ذلك هو مجرد "بذور" لتطورات قادمة، والمثير، أن تطورات إيران الداخلية هي التي ستحسِـم الموقف غالبا، فستوضّـح نتائج الانتخابات الإيرانية القادمة، ما إذا كانت إيران قد أرهقت وما إذا كانت تصوّرات أحمدي نجاد حول القوة الإقليمية العظمى قد اقتربت من نهايتها أم أنها – كما قيل لعلي لاريجاني على سبيل التمنّـي، من جانب أحد المتحمّـسين لدور إيران – استراحة مُـحارب ستعود بعدها إيران إلى ساحة الصِّـراع بأقوى ممّـا كانت عليه؟