حين يتحدث زعيم عربي بلغة القانون الدولي فذلك يستحق مني أن أعيره أذناً صاغية. وهذا بالضبط ما حصل الأسبوع الماضي حين استمعت إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مؤتمر صحافي بعد لقائه الرئيس المصري، حين رفض الأول الوساطة المصرية في الحوار مع «حماس»، وقال في تصريح نشرته صحيفة «الحياة» الخميس الماضي، إنه لن يقبل الحديث مع «حماس» حتى «تتراجع عن انقلابها و... تقبل بكل الالتزامات وبالشرعية الدولية».

ولعل ما استوقفني في كلام الرئيس الفلسطيني هو طلبه من «حماس» الاعتراف بـ «الشرعية الدولية»، التي لم يفصح عن محتواها بالضبط، إلا أنها قد تعني عند عباس الاعتراف المباشر بإسرائيل أو في أقل الأحوال الاعتراف بالاتفاقات القائمة مع إسرائيل، وهو أمر حاول عباس الضغط على «حماس» لقبوله في الماضي من دون نتيجة.

ومن يدري فربما رأى السيد عباس أن حل الأزمة الفلسطينية الداخلية قد يبدأ من الخارج، ولهذا جاء إصراره على الاعتراف بالشرعية الدولية أولاً! وبغض النظر عن الموقف غير المتسامح ممن يعتبر «أباً» لجميع الفلسطينيين في إنهاء معضلة يموت بسببها أفراد شعبه، فإن طلب الاعتراف بما يسميه عباس «الشرعية الدولية» في هذا الوقت مريب في أقل الأحوال!

ففي الوقت الذي تموت فيه غزة مرضاً وجوعاً، وفي حين يتوالى القصف الإسرائيلي عليها يومياً، يتساءل المرء عما إذا كان صوت الرئيس الفلسطيني قد بُحَّ عن بعث نداءات قانونية دولية الى الجانب الإسرائيلي الذي لم يكترث يوماً بـ «الشرعية الدولية»!

فهل خفي على الرئيس عباس أن إسرائيل - التي أعلنت لتوها على لسان رئيسها نيتها في جعل دولتها يهودية بحتة - تنوي طرد الفلسطينيين العرب من داخل الخط الأخضر، فضلاً عن أنها لن تسمح بعودة اللاجئين، ضاربة بعرض الحائط قرار مجلس الأمن رقم 194 الخاص بحق عودة اللاجئين، وقرار مجلس الأمن رقم 237 (1967) الخاص بعودة النازحين بما في ذلك من شرعية دولية؟

تساءلت مع نفسي لِمَ لم أسمع من الرئيس الذي زار لتوه نظيره الإسرائيلي تذكيراً بقرارات مجلس الأمن الداعية إلى بطلان إجراءات إسرائيل حول تهويد القدس، كالقرار رقم 452 (1979) والقرار 476 (1980)، وتذكيراً بالقرار رقم 478 (1980) الذي يدعو الدول إلى سحب هيئاتها الدبلوماسية من القدس وعدم الاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل، بصفة هذه القرارات تمثل الشرعية الدولية؟

أم ان الرئيس - الذي جاوز السبعين من عمره - نسي أن إسرائيل لا تزال تحتل الضفة الغربية والقدس وغزة احتلالاً مخالفاً للقوانين الدولية و «الشرعية الدولية» بما في ذلك قراري مجلس الأمن 242 (1967) و338 (1973)؟

ثم هل امتناع الرئيس الفلسطيني عن الحديث عن عدم شرعية الجدار العازل يعني أن الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية حين أفتت ببطلان هذا الجدار ومخالفته لـ «الشرعية الدولية» قد تغير؟ كما أنني لم أفهم السبب الذي من أجله لم يأت الرئيس الفلسطيني على ذكر الحفريات التي تحيط بالمسجد الأقصى من كل جانب من أجل إسقاطه، والمخالفة لقوانين الاحتلال؟

وهل جرائم مصادرة الأراضي والطرد القسري والتطهير العرقي التي تنتهجها إسرائيل يومياً في الأراضي التي تحتلها لم تعد مخالفةً للشرعية الدولية واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949؟

وماذا عن سياسة الاستيطان التي ما زالت إسرائيل تواصلها حتى بعد مؤتمري أنابوليس والمانحين في باريس؟ هل نسخت قرارات مجلس الأمن ذات الأرقام 446 (1979) و465 (1980) و497 (1981) و592 (1986) القاضية بتجريم الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة؟ أم أن إثارتها لم تعد تجدي نفعاً فكان تركها أولى؟

ترى هل فات الرئيس عباس أن يتحدث في معرض حديثه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي - ولو عرضاً - عن الشرعية الدولية التي تعتبر حصار غزة الذي يشمل منع الدواء والغذاء، جريمة من جرائم القانون الدولي تسمى «جريمة إبادة»؟

أليس في حقيقة كون إسرائيل أكثر دولة شجبت من مجلس الأمن - كما أوضحت ذلك في دراسة سابقة - دليلاً على عدم التزامها بالشرعية الدولية؟

من يدري فربما رأى الرئيس عباس بحكمته الثاقبة عدم إثارة مثل هذه الشؤون في هذا الوقت، لكي لا يفقد «تعاطف الغرب» وإن أصرت إسرائيل على مخالفتها لهذه «الشرعية الدولية»!

لقد كان الأَوْلى بالرئيس - الذي ذكر في اللقاء ذاته أنه ذو «قلب مفتوح» - أن يدرك أنه سيفقد ما بقي له من صدقية عند شعبه والأمة العربية الذين يراقبون تصريحاته القاسية ضد أبناء شعبه، والرحيمة ضد أعدائهم!

وعلى افتراض أن «حماس» قامت بانقلاب على «شرعيته الداخلية»... فهل الشرعية الفلسطينية التي أضيعت بسبب هذا الانقلاب أخطر من ضياع الشرعية الدولية؟ أم أن المطلوب من «حماس» أن تعترف بانقلابات إسرائيل ضد «الشرعية الدولية» أولاً، لكي يتم الاعتراف بانقلابها ضد الشرعية الداخلية؟

قد تكون مطالبة عباس لـ «حماس» بالالتزام بالشرعية الدولية في الوقت الذي تخرق فيه إسرائيل القوانين والأعراف الدولية ليلاً ونهاراً، مثيرة للسخرية حقاً، ولكن ربما كان الرئيس عباس معذوراً بجهله ببعض القوانين الدولية كونه غير متخصص في القانون الدولي، وليس بين وزرائه حقوقي دولي واحد! من أجل ذلك ليس عليه من حرج إذا كان قد استعان بوزراء صديقه أولمرت لشرح مفهوم «الشرعية الدولية»!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)