إرسال الولايات المتحدة المدمرة الحربية «كول» للرسو مقابل الشواطئ اللبنانية، يذكر بالبارجة نيوجيرسي التي سبق وأن أرسلت الى المكان نفسه، ومارست عدوانا على لبنان من خلال قصف مدافعها لأماكن متعددة فيه إبان الحرب الأهلية اللبنانية. ان كانت «نيوجيرسي» قد أتت آنذاك من أجل ممارسة الضغوطات الأميركية على لبنان كرديف قوي للضغوطات الاسرائيلية عليه من خلال احتلال أراض في الجنوب اللبناني، فإن المدمرة كول هذه المرة وإن ظلت في أحد جزئياتها تحتل السياق نفسه، أي ممارسة الضغط من أجل الحل في لبنان وفقا للرؤية الاميركية، لكنها ايضا تطال نقاطاً متعددة أخرى على صعيد المنطقة... فليس صدفة ان ترسل الولايات المتحدة قطعة مهمة من أسطولها البحري في هذا الوقت بالذات، الذي وصلت فيه الأزمة اللبنانية الى طريق شبه مسدود، وبعد إعلان الأمين العام لحزب الله عن تبني ما يشبه استراتيجية جديدة (التوقع بنهاية قريبة لدولة إسرائيل بناء على معطيات تحليلية عدّدها في خطابه). وجود المدمرة كول هو رسالة (أمن) الى اسرائيل مفادها: ان القوة الأميركية في خدمة المحافظة على البقاء الإسرائيلي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي بمثابة اعطاء ضوء أخضر للكيان الصهيوني للقيام بما يعتقد انه قادر على انجازه، وهو: تصفية حماس في غزة بالقوة العسكرية، بعدما تم الكشف عنه مؤخراً من نقل خطة اميركية مبكرة (بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية) للقضاء عليها وإسقاط حكومتها. بالطبع، توقفت عملية: الشتاء الساخن الاسرائيلية مؤقتاً (وفقاً لتصريحات أولمرت وباراك) قبيل جولة رايس الأخيرة في المنطقة، التي حرصت في اول تصريحاتها على تحميل حركة حماس مسؤولية ما حصل من محرقة في غزة. بالتالي فنحن امام استئناف قريب للعمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وفقاً لتصريحات فلنائي، نائب وزير الدفاع الاسرائيلي، الذي وعد الفلسطينيين بمحرقة أشد وأكبر. هذه الخطة الاسرائيلية تتم بضوء أخضر أميركي. في السياق نفسه ايضا، عبّرت رايس عن ان أحد أهم أهدافها من زيارتها للمنطقة: هو إنقاذ المفاوضات الاسرائيلية ـ الفلسطينية، بعد إيقافها من قبل السلطة مؤخراً (بفعل التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير على القطاع)، بالرغم من الاستمرار الاسرائيلي في سياسة الاستيطان وتسمين مستوطنات القدس!
دبلوماسية البوارج، هي أيضا رسالة اميركية الى سوريا المتهمة دوما بتعطيل الحل في لبنان، باضافة ضغوط سياسية جديدة الى الأخرى التي تمارس عليها، ومنها مسألة انعقاد القمة في دمشق في موعدها (نهاية مارس الحالي)، فكافة الترجيحات تشير الى، إما انعقادها في الموعد نفسه في مقر الجامعة العربية في القاهرة وإما الى تأجيلها، او مقاطعتها من دول عربية كثيرة، او تخفيض مستوى التمثيل العربي فيها (وفي هذه الحالة، كأنها لم تنعقد!)، وذلك إذا لم يجر ملء الفراغ الرئاسي في لبنان، بما سيشكله عدم انتخاب رئيس من مشكلة حقيقية في مسألة التمثيل اللبناني في القمة المنتظرة إرسال البارجة الاميركية إلى المنطقة هو أيضاً رسالة الى ايران في ثلاثة اتجاهات، الأول: هو برنامجها النووي، وقد اتخذ مجلس الأمن قراراً جديداً بتوسيع فرض العقوبات عليها، في ظل اتهامها بالمضي قدماً في تخصيب اليورانيوم (وقد كان لافتاً للنظر: الموقف الروسي منها: ان في التصويت على فرض العقوبات عليها، او في مطالبتها من قبل موسكو قبل فترة قصيرة من تصويت المجلس على فرض العقوبات عليها، بوقف تخصيبها لليورانيوم خلال أيام قليلة!). الاتجاه الثاني: هو مطالبتها بكف يدها عن التدخل في لبنان، وهي المتهمة بالضغط على المعارضة لتصليب موقفها، وأيضاً بإمداد حزب الله بالمزيد من الأسلحة. الاتجاه الثالث: هو مطالبتها بوقف تدخلها في العراق، وقد كان الرئيس بوش واضحاً فيما طلبه من الرئيس نجاد بوقف تسليح إيران للميلشيات العراقية التابعة لها، قبيل زيارة الأخير إلى بغداد.
من زاوية ثانية: لو جرى التساؤل عن الحدود التي تصل اليها سياسة الضغط بالبوارج الأميركية وهل ستتعدى الاطار السياسي الى مجال استعمال القوة العسكرية؟ وفي الإجابة نقول:
صحيح، ان الادارة الاميركية الحالية، والرئيس بوش تحديداً، الذي سيغادر منصبه في نهاية العام الحالي، وبالتالي، فهو متحرر من ضغوط الانتخابات باستكــمال فترة رئاسته الثانية، بحاجة إلى نصــر مــادي ومعنوي ينهي به ولايته، وبخاصة على ضــوء فشل استراتيجيته في العراق، وغوص جيشــه في وحول المستنقع العراقي (الذي وفقـاً لتصريحــات مادلين اولبرايت ـ وزيرة خارجــية اميــركا سابقا ـ يشكل عمقاً أكبر من المستنقع الفيتنامي) اضافة الى ما هو معروف عنه من تســرع في اتخاذ القرارات من دون اتزان او روية، قد يقدم على اتخاذ حماقة جديدة باستعمــال القوة ضد سوريا او ايران او ضدهما معا، او من اجل تمرير الحل في لبنان... لكنها بالتأكيد الحدود المقتصرة على توجيه ضربات عسكرية عن بعد، دون المغامرة بفتح جبهة جديدة للــولايات المتــحدة، وهذا ان تم، فمن خـلال التنــسيق مع الحلــيف الإسرائيلي وبمساعدته من خلال اعطائه دوراً في مجمل القصور الأميركي للمنطقة. لكن ووفقا لتداعيات الاحتلال الأميركي للعــراق، وصعوبة توقع نتائج هذه الضــربات العسكرية، مثلما فشلت التوقعات فيما يتعلق بالعراق، فانه وعلى الأغلب الضغط بالبوارج سيقتصر على الاطار السياسي فقط... بعيدا عن استعمال القوة العسكرية.

مصادر
السفير (لبنان)