والمبادرة المقصودة هنا هي المبادرة العربية القديمة التي أقرها مؤتمر القمة المنعقد في لبنان، بشأن القضية الفلسطينية، وباقتراح من سمو ولي العهد السعودي (الملك الحالي عبد الله)، وليس المبادرة العربية الاخيرة بشأن الازمة اللبنانية.
فبعد ان مرت تلك المبادرة، منذ ابرامها في بيروت، بحالات عديدة تراوحت بين حالي الحيوية والموت السريري، وما بينهما من حالات، يعود الحديث عنها في هذه الايام الممهدة لمؤتمر القمة العربي الجديد المفاوض عقده في دمشق.
وحتى هذا الحديث المتجدد، فإنه يتخذ اكثر من شكل ويفترض اكثر من حالة:
÷ حالة العتب على اسرائيل، وإلقاء اللوم عليها، لعدم تجاوبها مع المبادرة.
÷ حالة التهديد بسحب المبادرة، اذا بقيت لا تلقى تجاوبا من اسرائيل.
÷ حالة احتمال تفعيل المبادرة، بخطوات غير معلن عنها حتى الآن، عل روحا من الحيوية تدب فيها.
إن فتح باب التكهنات أمام الاحتمالات الراهنة المفتوحة امام المبادرة العربية، يأتي ليشكل اضافة جديدة الى التعاطي العربي المشوش وغير الواقعي مع المبادرة منذ ولادتها، وحتى يومنا هذا، وذلك على الصعيد الشعبي والجماهيري، كما على صعيد الانظمة الرسمية.
لقد كانت المبادرة محكومة منذ ولادتها، كما هي محكومة اليوم على ابواب قمة دمشق، باحتمالين واقعيين لا ثالث لهما:
1 اما انها خطة عمل جدية منذ البداية، الامر الذي يحتم منذ البداية ايضا قرارا عربيا حاسما باعتماد الامكانات وأدوات العمل القادرة على نقل هذه الخطة من تصور على ورق، الى واقع وتحولات ميدانية على ارض القضية، في فلسطين وجوارها العربي المباشر، ومحيطها العربي الاوسع والاشمل.
2 او انها منذ البداية مجرد عملية غسل أيدٍ من القضية، الامر الذي كان وما يزال لا يتطلب اكثر من وضع الخطة على الورق، ثم انتظار الظروف لتدفع الخطة الى حيز الامر الواقع، فإذا لم يحدث ذلك، فالمسؤولية تقع على الظروف غير المؤاتية.
ان تحميل الاجتماعات العربية الاخيرة الممهدة للقمة، مسؤولية عدم تقدم المبادرة اي خطوة عملية الى الامام لعدم تجاوب اسرائيل، هو ـ للاسف الشديد ـ تأكيد جديد (ما كنا بحاجة اليه) على ان الافتراض الثاني في تفسير اطلاق المبادرة، هو التفسير الاصح او الادق، او ـ هو في اقل تقديرـ الامر الساري المفعول، منذ ولادة المبادرة حتى يومنا هذا، وحتى ظهور مؤشرات عملية اخرى تثبت العكس.
هل كان المسؤولون العرب الذين يلقون اللوم والمسؤولية على عدم تجاوب اسرائيل، يبنون آمالهم في تحويل المبادرة من خطة نظرية الى امر واقع على ارض القضية، على تجاوب اسرائيل؟.
هل سألوا انفسهم مرة واحدة: وما الذي يدفع اسرائيل الى التجاوب؟
هل سألوا انفسهم مرة ثانية: هل لاسرائيل مصلحة في نجاح المبادرة العربية وتحويلها من خطة نظرية الى امر واقع؟ ام ان مصلحتها تنحصر في فشل المبادرة، وتركها في احسن احوالها خطة نظرية على ورق مصقول؟
لقد طورت اسرائيل الامر الواقع في مسيرة القضية، منذ ولادة المبادرة العربية، وحتى يومنا هذا قبيل ايام من مؤتمر القمة العربية الجديد في اتجاه معاكس تماما للمبادرة، كما يلي:
÷ سجلت منذ البداية، وعلى لسان ارئيل شارون رفضا قاطعا للمبادرة، ما زال ساريا حتى اليوم.
÷ ردت اسرائيل فورا على المبادرة باجتياح للضفة الغربية ما زالت آثاره المأساوية سارية الى اليوم.
÷ زادت اسرائيل توسيع رقعة المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية، كما زادت رقعة المستوطنات العشوائية الصغرى.
÷ واصلت اسرائيل بناء جدار الفصل العنصري في طول الضفة الغربية وعرضها، رغم صدور قرار محكمة العدل الدولية، باعتبار الجدار غير شرعي وغير قانوني، وهو القرار الذي لم يتحرك العرب والفلسطينيون خطوة واحدة للافادة منه عمليا.
÷ خاضت اسرائيل في هذه الاثناء حربا عدوانية شاملة مدمرة على لبنان، لم يوقفها الا صمود المقاومة اللبنانية في ما بين اسرائيل وقدرتها على تحقيق اي هدف من اهداف عدوانها الشامل.
÷ استمرت اسرائيل في تعميق وتوسيع مشروع تهويد القدس العربية تهويدا كاملا، لم يعد يفصلنا عن اكتماله الا خطوات اسرائيلية اخرى في هذا الاتجاه.
÷ واصلت اسرائيل عمليات القتل والتصفية الجسدية المباشرة، بالاسلحة الجوية والبرية، لقيادات ونشطاء المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، اضافة الى اعداد اخرى من المدنيين العزل اطفالا وشيوخا ونساء. وأحاطت تلك العمليات بحصار لا انساني لمليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة في جميع مرافق حياتهم اليومية.
÷ واصلت اسرائيل، بموازاة كل هذه الخطوات، تحقير السلطة الفلسطينية واضعافها مرة تلو الاخرى، في جولات للمفاوضات لم تستطع بعد سنوات طويلة، ان تدفع اسرائيل الى ازالة حاجز واحد من حواجز الاحتلال.
÷ والاهم من كل ذلك، فإن اسرائيل واصلت عرضها الوحشي هذا بنجاح منقطع النظير، وسط علاقات عربية سياسية ودبلوماسية واقتصادية، تتطور وتتعمق يوما بعد يوم، الى درجة حل مشكلة الطاقة الاسرائيلية بواسطة الغاز العربي.
لو كان اي من المسؤولين العرب المعترضين على عدم تجاوب اسرائيل مع المبادرة العربية، لو كان في موقع اسرائيل، هل كان يمكن له ان يرفض كل هذا «الدلال العربي»، ويخاطر مجانا بإنجاح مبادرة سياسية ستضطره الى العودة لحدود الرابع من حزيران، وإزالة المستوطنات وجدار الفصل العنصري، والتخلي عن القدس العربية، وربما اضطرته ايضا لقبول جزئي بتطبيق جزئي لحق عودة بعض الفلسطينيين الى ديارهم؟
في مراحل الصراع الاولى، كان المطلوب جهدا عربيا شاملا لتحرير فلسطين، اما اليوم فقد تبدلت الظروف، وأصبح سقف المطلوب عربيا هو وقف «الدلال العربي» المحيط بإسرائيل، لعلها تحس ساعتئذ انها مضطرة لتفاهم ما مع العرب والفلسطينيين.
عند هذه النقطة فقط، قد تكتسب المبادرة العربية قيمة عملية وفعالية على ارض الواقع. وفي ما عدا ذلك، فإن عمليات غسل الايدي العربية من قضية فلسطين، ستستمر في عرض مخجل متواصل الى ما شاء الله، وعمليات اسرائيل لاستكمال الغاء عروبة فلسطين وطحن شعبها حتى العظام، متواصلة هي الاخرى الى ما شاء الله.

مصادر
السفير (لبنان)