أكثر المتفائلين لم يكن يتوقع أن تفعل المقاومة في غزة ما فعلته في صمودها الذي أصبح اليوم يشكل تحدياً يفقأ عيون كل الذين انتظروا من المقاومة رفع الراية البيضاء في غضون يومين أو ثلاثة من العدوان على أبعد تقدير.. وتالياً فإن أحداً لم يكن يتوقع أيضاً أن تدفع المقاومة بالشارع الشعبي العربي والأجنبي إلى هذه المستويات من الغليان والدعم للخيار المقاوم والرافض للعربدة الإسرائيلية.

لم تستطع إسرائيل إذاً حتى الآن قلب الصورة السياسية والشعبية في غزة كما أرادت الإدارة الأمريكية وكما أراد معها بعض العرب، لا بل على العكس من ذلك فإن صورة غزة المقاومة كمساحة جغرافية صغيرة امتدت إلى مساحات وصلت مفاعيلها إلى أقصى أقاصي الأرض، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، هذه الصورة التي باتت اليوم مصدر قلق وحاجز يمكن له عرقلة أولئك الذين يحاولون رسم صورة جديدة للمنطقة من المؤكد أنه لن يُعتمد فيها ـ إن استطاعوا رسمها ـ سوى خياراً واحداً لا بديل عنه: "الاعتدال" كصورة مجمَّلة وملمَّعة للخذلان والانهزام.

ويبدو أن ثلاثي العدوان والحرب "أولمرت وليفني وباراك" قد فشلوا حتى الآن في تسجيل أي مكسب إسرائيلي انتخابي، ربما يكون كل من ليفني وباراك معنيان به بالدرجة الأولى، في حين أن أولمرت لا يطمح إلا إلى إنهاء حياته السياسية ولو بـ "نصر" يتيم!.. ولا شك أن الثلاثة باتوا يدركون مخاطر الهزيمة أمام المقاومة وانعكاساتها التي من شأنها إحداث شرخ في النسق السياسي الإسرائيلي الداخلي يمكن له أن يهز صورة "رجالات وقادة" السياسة والحرب في إسرائيل أمام ناخبيهم.

صمود المقاومة في غزة وامتلاكها هذه المقدرة التي فاجأت الجميع، يضاف إليه هذا الجنوح الشعبي لتبني الخيار المقاوم ربما يقود إلى السيناريو التالي:

أولاً: موافقة جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأيام المقبلة على "وقف إطلاق النار" لأن تصريحات إسرائيلية تُسمع اليوم من هنا وهناك تشي بمجملها بمحاولة البحث عن خيار سياسي بديلاً عن الخيار العسكري الذي أثبت فشله ووضع "القيادات" في مأزق حرج، خصوصاً أن تجارب إسرائيل العدوانية أثبتت أن لا قدرة سياسية وشعبية لها على تحمل تبعات الحروب الطويلة.

ثانياً: ربما تؤجل إسرائيل الموافقة على "وقف إطلاق النار" إلى ما بعد تسلم الرئيس الأمريكي المنتخب "الصامت حتى الآن" باراك أوباما مهامه الرئاسية، لتقدم له هذه الموافقة كهدية يمكن له أن ينطلق من خلالها باتجاه التعاطي مع أزمات المنطقة، انطلاقاً من "تمثيلية وهمية" يظهر أوباما من خلالها أنه نجح ـ كخطوة أولى ـ في ممارسة ضغوطه لإرغام إسرائيل قبول قرار مجلس الأمن الدولي الداعي إلى "وقف إطلاق النار".

إلا أن هذا السيناريو ومعه كل السيناريوهات الأخرى المحتملة لن يغير في قناعة الإدارة الأمريكية الجديدة وإسرائيل و"المعتدلون" العرب من أنه لن يكون هناك عودة لاعتماد الخيار العسكري مرة أخرى على المدى المنظور، فتجربتي لبنان وغزة قد علمتهم جميعاً، وهذا بطبيعة الحال سيحملهم إلى اعتماد بروباغاندا إعلامية شرسة وأكثر فجوراً "كأسلوب قديم ـ جديد" يمكن من خلالها محاربة هذا الخط المقاوم سياسياً وثقافياً واجتماعياً من خلال العزف مجدداً على وتر "الإرهاب" والسعي لإلصاق هذه التهمة بالداعين إلى اعتماد خيار المقاومة خياراً أساسياً في حلبة الصراع.. كيف لا؟!.. لطالما أن أدوات تدعيم وتعويم هذه التهمة جاهزة وعلى أتم الاستعداد بانتظار الإشارة، وهي الممتلكة أكبر الإمبراطوريات الإعلامية "العربية المحايدة والمعتدلة!!" التي لا بد ستضخ نفطها وغازها ودولاراتها في خدمة هذه المعركة!.

على أية حال، فإن المراهنين على إنهاء المقاومة في غزة عسكرياً، باتوا اليوم أكثر قلقاً نتيجة إدراكهم أن المقاومة كمشروع ليست مجرد بنادق وعبوات ناسفة وصواريخ يحملها بضع مئات من المقاومين والمقاتلين الذين وفي حال القضاء عليهم يمكن القول: قضي الأمر!.. المسألة ليست بهذه البساطة، لذلك فالسؤال الذي يطرحونه اليوم: وماذا عن الملايين الذين يلبسون خيار المقاومة من رأسهم حتى أخمص قدمهم؟.. هل يمكن التعاطي معهم عسكرياً بالطائرات والدبابات والبنادق؟.. الجواب بالتأكيد: لا.. إذاً فلتكن معركة إعلامية ثقافية واجتماعية وعسكرية لكسر هذه الإرادة وتطويعها فربما تستطيع هذه المعركة تحقيق أهدافها.. والأرجح أنها لن تستطيع، لأن هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون حقيقة مفادها أن الرحم المقاوم، في غزة أو في غيرها، لا يمكن له إلا أن ينجب ما يشبهه!!.