لكن ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأت تتعزز مواقع التيار الداعي إلى الانطلاق وراء آفاق جديدة لتصريف منتجات المصانع الأميركية التي تضاعف إنتاجها مرات عدة خلال هذه الفترة حتى ضاقت بها أسواق النصف الغربي. وفي وجه مقاومة شديدة من التيار الانعزالي حاجج دعاة الانفتاح بضرورة عدم الانكفاء وترك الغنائم الناتجة عن سقوط إمبراطوريات أوروبا القديمة (العثمانية، الروسية والنمساوية) حكراً على فرنسا وبريطانيا. وقد نجح هذا التيار أخيراً في دفع الولايات المتحدة إلى المشاركة في الحرب في مراحلها الأخيرة والحاسمة. وفي أول إشارة إلى رغبة الولايات المتحدة الانغماس في شؤون عالم ما وراء الأطلسي، اقترح الرئيس ودرو ويلسون إنشاء عصبة الأمم التي كان هدفها المعلن الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، حل المنازعات الدولية بطرق سلمية ومنع نشوب حرب كونية جديدة. أما الهدف الحقيقي فتمثل في اقتسام غنائم الحرب بين الحلفاء المنتصرين وإحكام سيطرتهم على النظام الدولي الجديد. اقتسمت فرنسا وبريطانيا كما هو معروف البلاد العربية بموجب اتفاقية سايكس - بيكو في حين حصل الأميركيون على حق الانتداب على اسطنبول والأجزاء المحيطة بها بذريعة الحيلولة دون حدوث مذابح جماعية بين الأتراك واليونانيين. لكن خيبة ويلسون كانت كبيرة عندما رفض الكونغرس مبدأ التورط في مشاكل العالم كما رفض التصديق على انضمام الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم.

مع ذلك ظل التيار الانفتاحي (الإمبريالي) يحاول جاهداً الانخراط في اللعبة الدولية حتى جاءت الفرصة أخيراً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. تلكأت الولايات المتحدة كما حدث في المرة الأولى في دخول الحرب بسبب قوة المقاومة الداخلية لكنها انجرت إليها عندما هاجمت اليابان بيرل هاربر أواخر عام 1941. ويدعي بعض المؤرخين الأميركيين أن الهجوم على بيرل هاربر جرى بمعرفة الإدارة الأميركية عن طريق سفيرها إلى طوكيو الذي تسربت إليه خطة الهجوم. لكن الرئيس روزفلت الذي أمر بنقل معظم الأسطول إلى عرض المحيط ليفوت فرصة تدميره على اليابانيين، شاء بعد ذلك ترك هؤلاء يهاجمون بلاده حتى يتمكن من إقناع الرأي العام الأميركي ومعارضي الحرب بضرورة التدخل والانطلاق.

ومع انتهاء الحرب بانتصارها كانت الولايات المتحدة التي ظهر حجم قوتها للجميع، مصرة على عدم إضاعة الفرصة في صياغة نظام عالمي جديد يتم تسخيره لخدمة مصالحها السياسية، الاقتصادية والعسكرية وهي جندت كل إمكانياتها لتحقيق هذه الأهداف. ورأى الأميركيون أن أفضل طريقة لحماية مصالحهم وفي الوقت نفسه الابتعاد عن شبهة الهيمنة والإمبريالية التي لصقت بالأوروبيين هي إنشاء مجموعة من المنظمات، الوكالات والأحلاف تعمل من خلالها الولايات المتحدة على بسط نفوذها على العالم.

على الصعيد السياسي تم إنشاء هيئة الأمم المتحدة وهي فكرة أميركية خالصة كان الغرض منها استخدام الغطاء الدولي وسيلة لتحقيق أغراض الأمن القومي الأميركي. وحتى تأخذ قرارات، الأمم المتحدة صفة الإلزامية جرى استحداث مجلس للأمن يتمتع فيه حلفاء الحرب بميزات تم حجبها عن باقي أطراف المجموعة الدولية (العضوية الدائمة وحق استخدام الفيتو). وقد أحسن الأميركيون استخدام المجلس خلال الأزمات التي أعقبت مباشرة الحرب العالمية الثانية لكن نجاحهم الأبرز كان في استصدار قرار من مجلس الأمن بإرسال قوات تحت علم الأمم المتحدة لوقف الزحف الكوري الشمالي على الجنوب. وقد تمكن الأميركيون من استصدار هذا القرار نتيجة تغيب المندوب السوفييتي احتجاجاً على مناقشة مجلس الأمن للقضية الكورية. لكن السوفييت أدركوا خطأهم فيما بعد وتلافوا تكراره. ومنذ الحرب الكورية دخل مجلس الأمن في حالة شلل شبه كلي بسبب تعارض المصالح الأميركية - السوفييتية طوال سنوات الحرب الباردة مع أنه ظل منبراً لتفريغ حالات الاحتقان السياسي في وقت الأزمات. مع انتهاء الحرب الباردة عادت الولايات المتحدة لاستخدام المنظمة الدولية غطاء لتحقيق أغراضها الخاصة وسط استسلام بقية الأعضاء. فكانت حرب الخليج الأولى، التدخل في الصومال، هاييتي، البوسنة وغيرها. إضافة إلى فرض حصار اقتصادي على كل من لا تروق سياسته للولايات المتحدة مثل ليبيا، السودان وكوريا الشمالية.

في موازاة الجهد الدبلوماسي لتحقيق الهيمنة السياسية وبسبب حالة الشلل التي فرضتها المواجهة مع الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن، اندفعت الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة إلى إنشاء أحلاف أمنية بغرض احتواء وعزل المد الشيوعي، فظهر حلف شمال الأطلسي عام 1949 ثم حلف بغداد الذي آثرت الولايات المتحدة البقاء خارجه ابعاداً للشبهة التي سببها انضمام بريطانيا إليه هذا في الوقت الذي عززت فيه وجودها العسكري في كوريا الجنوبية، اليابان، والفيليبين قبل أن يتم الإعلان عن إنشاء تحالف جنوب شرق آسيا.

لكن النجاح الأميركي الأبرز كان في المجال الاقتصادي حيث تمكنت واشنطن من إنشاء مجموعة من الهيئات الدولية التي تحولت إلى أذرع للسياسة الأميركية راحت تفرض من خلالها على بقية العالم المعايير الاقتصادية التي يجب اتباعها وصولا إلى تعميم النموذج الرأسمالي. وقد عرفت هذه المؤسسات باسم نظام «برتن وودز» وضمت صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير إضافة إلى الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية وغيرها من الوكالات والتجمعات الاقتصادية. وقد لعبت هذه الهيئات دوراً بارزا في فرض السياسات الاقتصادية الرأسمالية وخاصة على الدول الفقيرة حتى كادت دولة الرفاه الاجتماعي تختفي بفعل اشتراطات مثل الخصخصة، تعويم العملة الوطنية، تحرير الأسعار وغيرها من السياسات التي تحاكي النموذج الاقتصادي الأميركي. على أن الإنجاز الأهم ظل ومازال متمثلا بربط الاقتصاد العالمي بالعملة والاقتصاد الأميركي الذي أصبحت أحواله مقياسا لصحة أو مرض الاقتصاد العالمي بينما تولت منظمة التجارة الدولية اكتساح ما تبقى من حواجز الحماية الوطنية وفتح أسواق العالم أمام البضائع والمنتجات الأميركية. بمثل هذه الهيئات والتجمعات الدولية تمكنت الولايات المتحدة من كسب الحرب الباردة، بسط هيمنتها وتعميم نموذجها الاقتصادي، السياسي والثقافي على العالم فيما أصبح يعرف بظاهرة العولمة أو «الأمركة» عند بعض المراقبين. وكانت كل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة ماضية في استخدام هذه الوسائل لبلوغ مرحلة "الأمركة العالمية"، لكن أحداث أيلول 2001 غيرت الصورة بشكل دراماتيكي مع أنها كانت بدأت تتغير بفعل وصول إدارة بوش إلى السلطة.

لم تخف إدارة بوش الابن منذ ما قبل انتخابها إيمانها الشديد بحق الولايات المتحدة بالعمل منفردة على الساحة الدولية ورغبتها في التحلل من كل الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تحد من قدرتها على العمل في المجال التجاري، السياسي والعسكري. كما لم تخف ازدراءها للأمم المتحدة التي وصفها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في إحدى المرات بأنها «مقهى حكواتية». أما حلف الناتو فقد اعتبرته إدارة بوش جزءا من مخلفات الحرب الباردة وبدأت عملية تحويله من حلف عسكري إلى ناد سياسي يضطلع بمهمات صغيرة ومحدودة. أما القوانين والشرائع الدولية فهي غير ملزمة وأي محاولة للحد من قدرة واشنطن على الحركة على الساحة الدولية سوف تقابل بالرفض المطلق. على أن هذه المفاهيم لم تكن إلا جزءاً فقط من أجندة الإدارة الجديدة فالوجه المحافظ للإدارة كان عليه أن ينتظر أحداث أيلول 2001 حتى يظهر بشكل واضح ويبدد كل الشكوك حول توجهات أميركا الجديدة.

لم تهز هجمات أيلول رموز العولمة الأميركية فحسب بل هزت المبادئ والنظريات التي رأت في العولمة ومؤسساتها وسيلة لفرض الهيمنة الأميركية بطريقة الجنتلمان الذي صهرته ثقافة نيويورك وواشنطن. فالتيار المحافظ في إدارة بوش تربى في تكساس على ثقافة رعاة البقر وهو بالتالي لم ير حاجة إلى الأقنعة والأساليب الدبلوماسية لفرض الهيمنة الأميركية على العالم. فأميركا ستفعل ما تشاء جهارا نهارا وبالوسائل التي تراها مناسبة. وهي سوف تعيد تشكيل العالم بما يتواءم مع طبيعة مصالحها وإذا كانت إرادتها في التغيير، كما رأى هذا التيار، مدعومة بقوة عسكرية ساحقة فإن العالم سيرضخ عندما يتأكد من جدتيها. ثم إن أميركا لن تسمح لأحد أن "يبتزها" فهي لن تقدم جوائز ولن تشتري رضا أحد إذ يكفي الفائز السلامة من نار غضبتها. ثم أن أميركا قوية وهي لا تحتاج أن تختبئ وراء الأمم المتحدة - تلك المؤسسة التي ابتدعتها عقول نخب نيويورك وواشنطن - وهي قادرة على تحجيمها أو تجويعها بحبس التمويل عنها. أما المجموعة الدولية فهي من بنات خيال المثاليين الضعفاء فليس هناك إلا أميركا القوية أما بقية العالم فهم ضعفاء، مغلوب على أمرهم. وفوق ذلك، فإن أميركا لا تحتاج إلى حلفاء فهي قادرة على بلوغ ما تريد بمفردها متى شاءت وحيث شاءت كل ما عليها أن تفعله هو أن تطلق العنان لجموح قوتها وتحطم القيود المفروضة عليها من الداخل والخارج.

هذه هي طريقة التفكير التي سادت في عهد الإدارة الأميركية المنصرفة والتي نحت باتجاه إسقاط كل الأقنعة العصرية من مؤسسات وقوانين وتفاهمات دولية والعودة إلى عالم يحكمه منطق الهيمنة العسكرية المباشرة الذي استخدمته الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. لكن الفشل كان بالمرصاد لهذه السياسة، فالإخفاق في العراق وأفغانستان ولبنان وجورجيا وأخيراً في غزة، إضافة إلى الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تواجهها، جعل أميركا تعيد النظر في الكثير من المبادئ التي حاول تكريسها بعض الحمقى من المحافظين الجدد.

في خطاب القسم، أقر الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما أن القوة وحدها غير قادرة على حماية أميركا، كما أكد على الحاجة إلى إعادة بناء التحالفات على الساحة العالمية والعمل من خلال المنظمات الدولية التي بنتها أميركا وحاول بوش تدميرها. إنها بالتأكيد دعوة لإعادة الاعتبار إلى العولمة السياسية والاقتصادية وأدوات «القوة الناعمة» التي خدمت مصالح واشنطن وكرستها كقطب وحيد في عالم اليوم.