كلما انتقلت العيون باتجاه الصفحات الاقتصادية فإن الأرقام تصبح أكثر غموضا، أو تترك مجالا رماديا لمعرفة أين يمكن الوقوف في المستقبل، فالرقم الذي يعبر عن "الموضوعية" و "أحيانا الحقيقة"، أصبح نوعا من مهاجمة للرأي العام بشأن الاستثمار أو العجز في الميزان التجاري أو حتى في قيمة الديون المترتبة على القطاع العام. ووسط الأرقام يُقال مديرون عامون، ويأتي مدراء كانوا سابقا موجدين لكنها كالعادة ضمن الجهاز المكتبدل الذي يأتي ويغيب.

هل هذه الصورة واضحة؟ وهل يمكن وسط فوضى التعبير عن الفساد أو التقصير أو حتى "التنمية" أن يتجه قلقنا نحو صورة أعم وأشمل" فحتى لو كانت الصورة واضحة، فإن قلق "المواطن" السوري لن يذهب بعيدا في عالم يهدأ قبل أن يتحول سريعا، ويتركه وسط أفق لم بألفه من قبل. فهذا القلق ربما لا علاقة مباشرة له بجولات ميتشل أو حتى بمؤتمر العلاقات السورية - اللبنانية، لأن الصورة "الذهنية" للأزمات لا تتشكل من خلال الحدث بل ربما عبر الصراع الذي يشهده في داخله، ومن تعدد الجبهات التي يراها استحقاقا ترسم له المستقبل.

مسألة المواطن ربما ترتبط مباشرة بحقوقه، لكن الحقوق ليست مطلقا يمكن فهمه على شكل المطالب السياسية فقط، فقبل التجريد الذي نجابهه في نشرات حقوق الإنسان حول الاعتقال "التعسفي"، فإن طريقة الفهم لهذا التعسفي مازالت مختلطة ما بين الاتهامات حول الجزر والإرهاب وصولا إلى التعسف باستعمال الحق، وما بين هذا الخلط فإن الصورة الوحيدة لمسألة الحقوق هي التهديد الدائم والقادم من أي شخص أو جهة، طالما أن مفهوم "المواطن العائم" هي أرث ثقافي .. والهم ليس تحصيل الحقوق بل معرفة الطريق "نحو الآخرة".

قلق المواطن السوري لن يرتبط حتى إشعار آخر بحملة القضايا القديمة، فهو امام مشهد آخر له علاقة بتفاصيل معاملاته مع من حوله، أو ربما بالتعيينات التي تدهشه وهو في وظيفته، فصورة تقلب المسؤولين ثم عودتهم أصبح إدمانا لكن من الصعب التآلف معه، ومظهر الأسواق وقدرتها على امتصاص دخله هي أيضا ستطفو على سطح أي سياسة خارجية يراها.

حقوق أو قلق المواطن باتت متحولة أكثر من أي يوم مضى، وهو لا شك يبحث أيضا عن "انفتاحه" الحقيقي بعيدا عن كم المؤتمرات المنعقدة في كل صباح، فهذه التجمهرات الرسمية او الخاصة تتركه لمساحات يتأمل تغرقه بكم إشارات الاستفهام حول "إدارته لحياته"، والأرقام التي تقلقه سواء كانت حجم الاستثمارات القادمة أو كم الديون المترتبة عليه، أو حتى نوعية التلوث التي تضرب جسده وتجبره على إنفاق المزيد للرعاية الصحية.

مفاتيح المواطن اليوم ليست في "القلق العام" ... وأزمته ربما في "النخب" التي تريد اغتصاب التعبير عنه، مهما كان موقع هذه النخب .. بينما "المواطن العائم" هو الذي يشهد التحول بهدوء يخفي الكثير من الدهشة وعدم القدرة على استيعاب ماذا سيحصل مستقبلا ليس فقط بالنسبة له، بل أيضا لهجوم الماضي عليه بحيث لا يعرف بأي زمن يعيش، وهل هناك صحوة أم غفوة ....