لم تعد مجرد الذاكرة كافية، فعندما يبدأ التاريخ بالسير نحو الخامس من حزيران ربما تمر أمامنا أطياف من "القرارات" التي تحولت إلى شواهد، فـ"الهزيمة" لم تكن باحتلال للأراضي، وربما كانت لاءات الخرطوم هي الصورة المقابلة لما افتقدناه، ففي الخامس من حزيران كانت هناك مساحة باقية للإرادة السياسية، بينما كان قرار مجلس الأمن 242 الصورة النقيض لمفردات الصراع.

الغريب أن "النصر العسكري" كان يقابله ارتداد سياسي، ففي عام 1973 بدت المسألة مختلفة لأن هناك على الأقل نوعا من "التوازن العسكري"، وفي المقابل ظهرت "الفجوات" الإستراتيجية التي أدت بعد ذلك إلى شرعنة الاحتلال، وإلى مقايضته بالسلام، والأخطر أنه كلما زادت الممكنات أصبحنا محترفي تسييس، فكنا بارعين في تحويل حرب 2006 إلى مغامرة سياسية لتأكيد المبادرة العربية، وحرب غزة لمهرجان مصالحة لم نشهد منه سوى تصريحات نتنياهو حول "التحالف" العربي - "الإسرائيلي".

في حرب حزيران أول صورة لنوعية التفكير الذي تسرب للخطاب السياسي، وسيبدأ العد التنازلي لطاقة السياسة العربية إجمالا على تحمل الضغوط الداخلية، وستصبح أيضا مسألة الحق مجال جدل باتجاه الإقرار بالواقع، وعلى ما يبدو فإن البحث الحقيقي في حرب حزيران امتد نحو الحاضر لأنه شكل صيغة التعامل مع "الشرعية الدولية" ؟ في مقابل "شرعية المقاومة، لأننا سنعترف لاحقا بشرعيتين لا تلتقيان.

قبل حرب حزيران كان التكوين السياسي في دول المواجهة على الأقل يرى الواقع من خلال "الاحتلال"، وهو اليوم في "حل الدولتين"، لذلك فهو سيرفض أي تكوين للمقاومة أو رؤية لها لأنها ستبعده عن مساره السياسي، والنظام العربي قوم نفسه عبر الشرعية الدولية التي تحولت أيضا منذ القرار 181 الخاص بالتقسيم باتجاه تأمين توازن مختلف يضمن الحد من أي قوة إقليمية قادرة على تغير المعادلة القائمة.

ربما علينا الاعتراف بالقرارات الدولية، لكنها في منطق ظهورها تحمل منطق "التوازن في الأزمة"، فهي انعكاس للتوازن الدولي، وعندما تحول هذا التوازن في بداية التسعينيات كان مؤتمر مدريد "شرعية" إضافية ضمت بشكل تلقائي القرارات السابقة، لكنها انطلقت بشكل مختلف لأنها أرادت خلق توازنات جديدة في المشهد الإقليمي.

نحن تبعنا "الشرعية الدولية" التي بدت منذ الخامس من حزيران وكأنها "الاحتلال الحقيقي" لفكرنا السياسي، فكان الهاجس الأساسي تطبيقها، في وقت كانت نفس هذه الشرعية تتبدل باستمرار وفق الخارطة الإستراتيجية للعالم، وكنا قادرين على تطويع الحدث حتى ولو حمل نصرا لكل القرارات التي لم تطبق، فنهدر الزمن والممكنات وربما دماء الشهداء على مساحة "التسييس" الذي تعودنا عليه منذ عام 1967.

في الخامس من حزيران ربما نستطيع أن نرسم "خارطة الحقوق" بدلا من خارطة الطريق التي يقول عنها رئيس السلطة بأن الفلسطينيين نفذوا 90% منها، والباقي سيتغير ويتمدد حسب "الشرعية الدولية" المتغيرة باستمرار.