أعتقد أنه لا يزال هناك وقت طويل للجدال حول مشروع قانون الاحوال الشخصية، التجاذب ليس بهدف الضغط على أمل إمكانية التعديل، وهي ليست بالنظرة التشاؤمية، فالقانون أو مشروعه بحد ذاته يشكل محاكمة للتوجه الحكومي ومدى جديته ليس فقط في ما يدعى بـ ’مواكبة تطور المجتمع’، وانما تطوير واقع المجتمع السوري باتجاه الانفتاح والتحديث وإصلاحه وتطويره، وذلك على الرغم من كل المؤتمرات التي عقدت وتعقد برعاية رسمية لمناقشة قضايا المرأة والأسرة وغيرها، مشروع القانون هو وقفة فعلية للموقف الرسمي وخلفيته من اتفاقيات مختلفة، أبرزها اتفاقية السيداو، وهو يحسم بالنتيجة أي توقع مستقبلي في ما يتعلق بقانون الجنسية وما يدعى بقانون جرائم الشرف.
فاللجنة التي وضعت مشروع القانون كلفت من قبل جهة رسمية رفيعة المستوى، ما يعني أن النخب التي تقود المجتمع عبر صياغة القوانين ومشاريعها وغيرها هي نخب تقليدية ومحافظة، هي نخب بحكم موقعها في المجتمع وليس بحكم الفكر أو الثقافة أو المدارس الاقتصادية، نخب المنصب يشكلها ولا تشكله، وبالتالي هي نخب ليست على استعداد للمغامرة أو خوض خطوة تقود لتغيير جذري في واقع المجتمع السوري’إن كان هناك نية لتغييره’، علماً أنها ’النخب هذه’ على الصعيد الاقتصادي كانت أكثر من جريئة في خيارات اقتصاد السوق وقراراته .
على النقيض من ذلك في الشق الاجتماعي وبشكل ملتبس غير مبرر، كانت النية في التغيير في مشروع القانون الأخير، باتجاه الردة للسلفية والعودة لعهد ما دعي بـ’صدر الإسلام’، لكنها عودة محملة بمفارقة فجة لكنها ممتعة في آن لمن يجرؤ على المقارنة، فمشروع القانون يتمثل بالماضي، ويعيدنا لألقاب لم نجرؤ على تفحصها يوماً، مثل ’التقسيم الفقهي’ للعالم، سياسياً وديمغرافياً، على أساس واضح لا يحتمل تأويلاً مهما حاول البعض تجميل الصورة، من خلال مقولة ’دار الحرب ودار الإسلام’ كمنظور إسلامي للعالم، التقسيم الذي لا يحتاج لتفسير حول المنظور للآخر إن لم يكن مسلماً رغم كل التأويلات التي تنادي بالاخوة والتسامح وللمفارقة أيضاً’التعايش كمصطلح ممجوج مكرر أمام كل زيارة لوفد أجنبي لسوريا’، وقد أدى مصطلح ’التعايش’ مغزاه القسري بشكل جلي في المشروع.
إضافة لتقسيم آخر داخل عالم الإسلام أو دار الإسلام يقوم على المسلمين والذميين ومن في حكمهم والمستأمنين، الذميين أي المسيحيين و اليهود اللذين أدوا الضرائب التي فرضها المسلمون عليهم لقاء السماح لهم بأداء شعائرهم واحتفاظهم بديانتهم التي ’للمفارقة أيضاً وجدت قبل الإسلام بمئات السنين’، والتي يفترض أن الإسلام يعترف بها ’أهل الكتاب والكتب السماوية الثلاث’، إضافة لما سبق هناك المستأمنين من رعايا من دول مجاورة أو قادمين لتجارة أو سفر، واستعادة مصطلح الذميين اليوم في مشروع قانون تمت صياغته في الألفية الثالثة وعصر الفضائيات واقتصاد المعرفة هي خطوة تعيدنا للخلف حكماً.
بهذه الطريقة قطعت اللجنة ’الحكيمة’ دابر كل محاولة تشب عن الطوق ’الشرعي’ بختم رسمي فوضها بذلك بعد عامين من التكليف في 2007 لتخرج بهذه النتيجة، قدمت فيها إضافات لا تنسى ولا تغتفر كحالات بطلان الزواج بسبب الدين، وهي زواج المسلمة بغير مسلم. زواج المسلم بغير مسلمة إذا لم تكن كتابية. زواج المرتدّ أو المرتدّة عن الإسلام ولو كان الطرف الآخر غير مسلم. وحسب المادة 93 من المشروع فإنّ العقد الباطل لا يترتب عليه أيّ أثر من آثار الزواج، فلا مهر ولا حقوق ولا نسب ولا وراثة.
أي أن مشروع القانون استحدث حالتين جديدتين لبطلان عقد الزواج بسبب الدين، هما زواج المسلم بغير كتابية، والزواج بالمرتدّ أو المرتدّة، علماً أن هاتان الحالتان غير موجودتين في القانون الحالي الذي اقتصر نصه على بطلان زواج المسلمة بغير المسلم، واللمسات الأخيرة لا تتعلق فقط بالتمييز على أساس الدين، وانما تتناقض مع الدستور الذي يعرف الجمهورية بأنها دولة عالمانية.
بالتالي لم تعد أحجية صينية تبادل الاتهامات ’من باب رفع المسؤولية’ بين النخب الرسمية والنخب الدينية حول تطوير القوانين، ففي وقت مضى كان التبرير الرسمي ’الشريعة الإسلامية لا تسمح بقانون الجنسية أو تطوير قانون الأحوال الشخصية’، رجال الدين بدورهم وضعوا الكرة في ملعب مجلس الشعب والمؤسسات الرسمية وعهدتها مؤكدين في أكثر من لقاء صحفي أن الشريعة لا تمنع أي تطور مجتمعي وانما الأمر يعتمد على جدية الدولة في سن مشروعات قوانين متطورة.
اليوم لم يعد التبرير يجدي نفعاً، لأن التواطؤ أصبح أوضح من أن يحجب بتبرير ما، رغم أننا لا نشك أبداً في مقدرة الحكومة على سن مشاريع قوانين جريئة ’إن أرادت ذلك’.