من الصعب التعليق على التصريحات العراقية الأخيرة الموجهة لدمشق، لأنها تدخل في مجال "الغيب السياسي" الذي شهد طفرة واضحة بعد احتلال العراق، فهذه الاتهامات المتكررة ربما لا تضيف شيئا على قاموس الخطاب السياسي المستمر، لكنها تخلق نتائج سياسية واضحة، في المقابل تضفي على المشهد السياسي شكلا غير مألوف مع تشابك الاتهامات مع زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي الأخيرة لدمشق، وما جرى خلالها من اتفاقات أخذت "طابعا استراتيجيا".

لكن ترابط الأزمات لا يضع أمام أي قارئ أجوبة مقنعة لمدى تلازم العنف في العراق مع المسائل الأمنية المرتبطة في سورية، لأن هذا الموضوع يسير وفق اتجاهات متباينة تحكمها بالدرجة الأولى الأزمات السياسية التي تعصف بالحكومة العراقية، فهذه الحكومة هي نفسها التي استقبلت المسؤولين السوريين، وهي أيضا ضمن التشكيل العام للدولة العراقية التي تضم رئيس الجمهورية الذي زار سورية. وحكومة المالكي أو من سبقها هي التي راقبت جموع العراقيين تغادر باتجاه سورية ربما في أكبر موجة نزوح منذ حرب 1948 في فلسطين .. وهذه الحكومة هي التي تتحدث اليوم عن إثباتات" حول تغاضي سورية عن "تسرب" المسلحين إلى العراق.

وإذا كانت العلاقة بين البلدين عاشت أياما عصيبة في الماضي، لكن ما يحدث اليوم مختلف تماما لأنه لا يقوم على مسالة التنافس السياسي، أو الاختلاف في الرؤية الاستراتيجية بين دمشق وبغداد، فما يحدث في العراق هو خروج للسياسة من دائرة الدولة ودخولها ضمن أشكال من "الإدارات" السياسية التي نجمت عن تشتت الدولة، وإعادة رسمها على قواعد افتراضية تجمع المجتمع وفق صور الديمقراطية، وتتجاوز الدولة من خلال تهميش دورها كمعبر حقوقي عن المجتمع، ووفق هذا السياق لن نستغرب تضارب تصريحات الوزراء في العراق، أو اختلاف الرئاسة في الحكومة، أو حتى في تفسير الشان السياسي بأدق تفاصيله. فهذه الخلافات التي يمكن أن تحدث داخل أي دولة أخرى، نراها اليوم تنتقل لترسم التوجهات العامة وحتى طريقة التعامل مع المجتمع، وهو ما دفع البعض لتوزيع الاتهاما ت بشكل متناقض بعد تفجيرات الأربعاء الماضي.

صورة الدولة اليوم هي المساحة المفقودة في العلاقة بين دمشق وبغداد، ويتم تعبئتها عبر العامل الدولي أحيانا او الإقليمي أحيانا أخرى أو حتى عبر "المسألة الأمنية" التي تبدو أنها أكثر المسائل إثارة للضجر مقارنة بما يحدث كل دقيقة في شوارع العراق. فما حدث بعد أقل من أسبوع على زيارة المالكي إلى دمشق يوضح أن مسألة العلاقة مع دمشق ليس محكومة برغبة سياسية فقط، بل إيضا بإمكانية التحقق لأنها خاضعة في النهاية لاختراقات "إستراتيجية" وليس أمنية، وهي تفتقد لـ"مؤسسة" تحدد طبيعة علاقة العراق مع جواره وليس مع دمشق فقط.