دافعت مصر عبر التاريخ عن فلسطين والفلسطينيين دفاعها عن مصر، وضحت في سبيل ذلك بآلاف الشهداء، كل ذلك لأنها كانت ترى أن فلسطين خط الدفاع الأول عن مصر، وأن أي خطر يحيق بها سينعكس حتماً بشكل سلبي على مصر واستقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهذه الرؤية كانت سائدة طوال التاريخ منذ "تحتمس" حتى أواخر عهد الرئيس جمال عبد ناصر؛ فالمسألة الفلسطينية كانت وما تزال البوابة الرئيسية لاستمرار الدور المصري في المحيط العربي والإسلامي.

ولكن ومنذ عدوان 1967 أو ما يسمى بالنكسة بدأت مصر تعمل على أن تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل النكسة لا من أجل تحرير فلسطين، وبدأ رد الفعل المصري الرسمي تجاه ما يحصل في فلسطين يصاب بالترهل والتقزم.

وبعد وصول السادات إلى السلطة في مصر وتحديداً منذ توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل في العام 1979 وما أدت له من عزل مصر عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والحد من قدرتها على التدخل الفاعل فيه، مُسخ الدور المصري في المسألة الفلسطينية، وتراجع حتى فقد أي تأثير له، وقد تجلت ذروة التراجع في الدور المصري أواخر التسعينيات وتحديداً منذ اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) التي دمرت فيها سلطات الاحتلال مقرات السلطة الفلسطينية وانتهى الأمر بياسر عرفات محاصراً حتى استشهاده, في ظل صمت مصري مريب حيث لم يتصل الرئيس المصري أحد أهم رعاة "السلام" في المنطقة بياسر عرفات المحاصر فضلاً عن زيارته، وظهر الدور المصري فقط من خلال إقامة جنازة عسكرية لعرفات، ولا ينكر أحد مدى التأثير الذي تركته هذه الحوادث فيما يخص قوة الموقف المصري الرسمي الذي أضحى قزماً لا يستطيع فعل شيء خصوصاً مع ارتفاع قيمة المعونة الأمريكية الضاغطة على مصر والتي وصلت 1.9 مليار دولار.

ويلقى الباحث السياسي "نائل شاما" في مقالة بصحيفة "ايجيبت ديلى نيوز" باللوم على السياسة الخارجية المصرية بأنها وراء تراجع دور مصر الإقليمي، مشيراً إلى أن سياسة مصر الخارجية "تبدو أحيانا وكأنها نجم سينمائي كبير السن" ، يبرر انحسار الأضواء عنه بإلقاء اللوم والاتهامات على الآخرين. وهو ما يفعله أحمد أبو الغيط وزير الخارجية حالياً، عندما قال: "إن الإيرانيين يسعون إلى فرض ونشر أيديولوجية خاصة بهم في المنطقة باستخدام بطاقة القضية الفلسطينية". وحذر حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية من "تأثير الإيرانيين الذين لم يقدموا شيئاً للقضية الفلسطينية ما عدا الكلمات الجوفاء والادعاءات التي لا أساس لها".
ولكن مصر التي تحذر من "المد الإيراني" وتدعو الفصائل الفلسطينية إلى الحذر منه قاطعت حماس منذ فوزها في الانتخابات التشريعية فوزاً كاسحاً وصل إلى 64 % من أصوات الناخبين, ولم يجتمع وزير الخارجية المصري أبو الغيط مع وزير الخارجية الفلسطيني آنذاك محمود الزهار ورفض الرئيس المصري والقيادة المصرية لقاء أي قائد من حماس بالرغم من أن الرئيس المصري التقى "إيهود باراك" و"تسيفي ليفني" والتقى سمير جعجع ووليد جنبلاط وآخرون هم أقل شأناً من ذلك, ولم يحظ رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية بلقاء مع القيادة المصرية منذ كُلف برئاسة الوزراء حتى أقيل بعد سنة ونصف.

وعندما تم توقيع اتفاقية القاهرة بين الفصائل الفلسطينية على تفعيل دور منظمة التحرير ودخول حماس والجهاد إليها ورفضت "فتح" تنفيذ الاتفاقية لم تحرك مصر ساكناً رغم أنها هي التي رعت هذه الاتفاقية لأنها لا تريد لحماس والجهاد وقوى الممانعة الأخرى أن تسيطر على المنظمة, حيث يعني هذا سيطرة قوى الممانعة على القرار الفلسطيني وحتى عندما أعلن أبو مازن إلغاء اتفاق القاهرة امتنعت مصر عن التعليق.

وعندما أرادت مصر أن تلعب دوراً في إعادة اللحمة إلى الفلسطينيين ودعت إلى حوار بين الفصائل في القاهرة لم يكن في حقيقة الأمر هذا حواراً بل أعدت مصر ورقة تريد من الأطراف التوقيع عليها. هذه الورقة كانت تمثل مطالب حركة "فتح" التي تنتهج خط المفاوضات ولا تريد أن تقاوم ولا تريد للآخرين أن يقاوموا أما الوسيط المصري فكان منحازاً جداً لبرنامج فتح وبرنامج أمريكا وإسرائيل في المنطقة بهذا الخصوص لذلك فشل الحوار وألقت مصر باللوم على حماس ومن خلفها إيران على أنها سبب انهيار الحوار الفلسطيني - الفلسطيني في حين أن موقف القيادة مصر تجاه الفصائل الفلسطينية المتنافسة تميز بعدم المرونة والانحياز. وبعد هذا الفشل هدد وزير الخارجية المصري ووزير المخابرات المصرية حماس بتحمل العواقب.

وبعد فشل الحوار أصبح الموقف المصري من حركة حماس أكثر تشدداً، وظهر هذا في مشاركة النظام الحاكم في حصار قطاع غزة، عبر الإغلاق المستمر لمعبر رفح، والذي يفتح في حالات محددة ولأوقات محدودة.

وعن ذلك يقول محمد حسنين هيكل: "السياسة المصرية مع المعابر محيرة ولا يستطيع أحد فهمها فمن الغريب أن إسرائيل تدخل وقودها عن طريق المعابر في الوقت الذي تغلق فيه المعابر في وجه البضائع والمعونات إلى غزة، مصر تغلق المعبر لإرضاء أمريكا وإسرائيل".

ولكن ما حدث بعد فشل حرب إسرائيل على قطاع غزة، يعد أمراً لافتاً للنظر، ويمثل تحولاً نوعياً في السياسة المصرية تجاه المقاومة فقد بدأ النظام المصري الحاكم بمراقبة الأنفاق على الحدود المصرية الفلسطينية، وعمل على هدم العدد الأكبر منها استجابة للمطالب الإسرائيلية والأمريكية، رغم أن الأنفاق تنقل مواد غذائية وأدوية ومستلزمات حياتية وهدمها وإغلاقها يؤدي إلى قطع شريان الحياة عن غزة وتقليل نسبة المواد التموينية التي تصل إلى القطاع، ما يترتب عليه صعوبات حياتية هائلة.

كما أن النظام المصري اشترك ضمناً في منع إعادة أعمار غزة، من خلال عدم سماحه بمرور مواد البناء من معبر رفح، رغم أن الحاجة لتلك المواد ماسة، وتمثل احتياجاً إنسانياً، لا علاقة له بالجوانب السياسية فهناك ألوف فقدوا منازلهم ويعيشون في خيم لا ترد برد الشتاء ولا حرارة الصيف.

و إذا أضفنا لذلك الكميات الهائلة من مواد الإغاثة التي لم يسمح النظام بمرورها إلى قطاع غزة يصبح النظام المصري شريكاً في حصار قطاع غزة.

والمصيبة الكبرى هي المقترح المصري بوضع قوات دولية على الحدود المصرية الفلسطينية لضمان عدم تهريب الأسلحة لحماس ومحاصرتها بشكل أفضل وتحت غطاء دولي من مجلس الأمن دون أن يكون من مهمة هذه القوات الدفاع عن الفلسطينيين كما وأيضاً تطرح المبادرة المصرية وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة يستهدف إيقاف المقاومة ومنعها وإيجاد ضمانات دولية لمنعها.

واليوم نجد أن النظام المصري لم يستطع الوصول إلى أي صفقة ناجحة بين حركة حماس والطرف الإسرائيلي فيما يخص قضية تبادل الأسرى. وهو ما يعني أن النظام الحاكم لم يعد يملك القدرة على إقناع الطرف الإسرائيلي بأي تفاهمات.

وفي النهاية نجد أن الدور المصري مُسخ من المدافع عن المسألة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني إلى مفاوض وسيط بين الأطراف الفلسطينية والطرف الإسرائيلي ومنه إلى وسيط منحاز في الحوار الفلسطيني - الفلسطيني واليوم مُسخ الدور المصري إلى حارس للحدود الإسرائيلية ولا ندري في النهاية إلى أين سيصل هذا الدور؟؟!!.