الكاتبة: ربى الحصري

لا أتخيل أن أي مجتمع في العالم يمكنه أن يعيش مع حزنه، فيستحضره في كل لحظة، وهو أمر بما لا ينطبق بشكل كامل على قطاع غزة، فالحصار لا يفرض معاناة يومية فقط، بل بقاء لجملة "الأحزان" التي حدثت خلال الاعتداءات الإسرائيلية، فالمسألة هي أن الذاكرة تتحول باتجاه تكوين ثقافة، وهي أيضا ليست موروثا دينيا أو رمزا يتم استحضاره في المناسبة، إنما "تحول" اجتماعي عادة ما يشكل مظاهر مختلفة كليا.

هذا على الأقل ما نلاحظه تاريخيا في ألمانية بعد النازية أو في اليابان بعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، أو حتى في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من إيلول، لكن ما الذي يحدث في غزة؟ هناك من يريد للحرب أن تتجمد عند نقطة معينة، فالمسألة ليست فقط في الحصار أو المعاناة الإنسانية، لأن ما يحدث يشكل "معاندة" للتاريخ، حيث يبقى المجتمع في غزة عند نقطة زمنية هي لحظة وقف الاعتداء، وهو ما يجعل آثار الحرب باقية وكأنها موجودة بذاتها.

المسؤول عن هذه الحالة ليست "إسرائيل" فقط، بل مجملة حالة دولية لا تريد لما حدث في غزة أن يصبح "حدثا" له توابعه، وعندما يتحرك المبعوث الأميركي جورج ميتشل على خط التفاوض دون استحضار غزة، أو اعتبارها مكانا محذوفا من خارطة السياسة، فإننا ندرك أن تلك الحرب يُراد لها أن تبقى "حزنا" فقط، وأن شطبها سياسيا يبدو الحل الأمثل بالنسبة للسلطة والولايات المتحدة و "إسرائيل" وحتى للنظام العربي.

بعد انتهاء الحرب تم عقد قمة في شرم الشيخ، وكانت الأرقام الافتراضية للدولارات تهطل من أطراف هذه القمة، وقبلها شهدت قمة الكويت الاقتصادية بدء "المصالحة" العربية، وهي كلها عبرت عن انتقال سلس لما بعد الحروب الإسرائيلية الفاشلة، دون ان تشكل التضحيات في لبنان أو غزة إمكانية التحول الذي وفق المؤشرات مرفوض عربيا قبل أن يتم رفضه دوليا.

ليس مطلوبا من اهل غزة أي شيء، وهو منطقي في ظل الحصار، لكن "قعر السياسة" اليوم يفرض على الأكاديميين العرب على الأقل دراسة ما حدث طالما ان السياسة لا تريد النظر إليه، ومادام العديد من المثقفين يرونه حرب ضد "تيار ديني" والآخرن ينظرون إليه من الزاوية التراثية كانتصار "ديني".

الأكاديميون العرب هم وحدهم في الساحة، وعلى الأخص أولئك الموجودين خارج نطاق النظام العربي، فالمسألة ليست توثيق الجريمة، بل تحليل الظاهرة لأن مثل هذا البحث يمكن أن يؤثر في أوساط أخرى غير عربية، ويمكن أن لدراسة التناقض الاجتماعي الحاصل خلال حرب غزة أن يفتح أفق تفكير مختلف على الأقل في مساحة النظرية لهذا الصراع بين العرب و "إسرائيل".

هي ليست دعوة بل محاولة للقفز فوق الاعتبار السياسي الذي يصر على إبقاء غزة خارج تفكيره.